بقلم / عمرو عيسي

” فللهِ قومٌ في الفراديس مذ أبت قلوبهم أن تسكن الجوَّ والسما ”

كلمات ابن عربي طرحت الأزمة قبل أن تعلن بوسي عن حساب والدها البنكي في المشهد الأول من الحلقة الأولى (28 مليون جنيه) ! .. شيء من الخبث والمكر تطاير من أعينهم في تتر البداية .. يبدأ الصراع قبل أن تبدأ الكلمة ، وكأن الله قد خلق الشر في الناس قبل أن ينفخ الروح فيهم !

ثمة فلسفة لم تعهدها الدراما من قبل .. لست بصدد التأويل ، فلكل منا رؤيته وتأويله .. والعمل يحتمل العديد من التأويلات بعضها قد يكون متضارباً .. كمن رأوا في الأب روح من الله وحكمة ، وكمن رأوا فيه تجسيداَ للشر ومرض النفس .. !

للمرة الثانية يقدم السيناريست محمد أمين راضي مع المخرج خالد مرعي تجربة هامه وممتعة بعد “نيران صديقة” في العام الماضي .. نفس المدرسة التي خاف الكثيرين من الخوض فيها ــ حسب قول راضي ــ تحمس لها خالد مرعي . وهي شجاعة تحسب له ، فقد رأي الكثيرون من صناع الدراما أن المشاهد العربي لا يتفاعل مع الواقعية السحرية ، ورغم ذلك كان للورق المكتوب بحرفية مخرج علي نفس القدر من الحرفية والإبداع أستطاع أن يصنع منه تحفة فنية اسمها السبع وصايا ستظل محفوظة في الرف الأعلى من مكتبة الدراما المصرية ..

في البدء كانت الكلمة ، والكلمة الصوفية بالتحديد ــ ككلمة من روح الله ــ وجدت من يصنعوا لها أثواب / ألحان تناسب سموها بخفقات القلب وتقلبات الروح ، محاولات كثيرة ومحمودة .. لكن ما صنعه هشام نزيه تجربة فريدة ومغايرة لما هو متعارف عليه ، قالب جديد للإنشاد الصوفي ، حتى أن بعض المعجبون بصنعته لقبوه بـ (مشعوذ الموسيقى العربية) ..

ومن فريق العمل من كان لهم بصمة خاصة وبارزة بدراسة أهم وأدق التفاصيل وإخراجها بالصورة المثلى مما يجعل المشاهد يشعر من الوهلة الأولى بأن ما يراه علي الشاشة متسق ــ تمام الاتساق ــ مع الواقع الذي يتعايش معه ، وأن ما ينقله إليه الممثلون صورة حية مطابقة للأصل ، ومن أهم هؤلاء الذين أتحدث عنهم مصممة الملابس دينا فتحي ، ومهندسة الديكور شيرين فرغل . ومهندس الصوت علمى عبد الستار الذي ساعد في أن يجعل روح العمل نابضة بقوة في جسده الحي ..

لكن ثمة مشكلة قد واجهتها أمام التسلسل المنطقي لبعض الأحداث ، التفاصيل كثيرة ، والشخوص متعددة ، ولكن كل هذا كان علي طريق واحد متصل ومنسجم ، الأزمة الوحيدة التي ظلت قائمة هي منطقية ما يحدث ، لا أقصد هنا منطقية اختفاء الأب ، أو ما شابه .. هذا كله مقبول علي المستوى الفني .. لكن هناك بعض التفاصيل الدقيقة خرجت من اللا منطق ، وبعضها كان اساسياً بحيث قامت عليه بقية الحكاية حتى آخرها كقصة مرمر .. الفنانة ناهد السباعي التي أجادت دور فتاة الكوافير الجريئة .. حادة وصارمة وشرسة في بعض الأحيان ، ولكن بطبيعة الأنثى ضعيفة وخائفة في أحيان أخرى .. أجادت كل هذا ولكن ، الحكاية نفسها تحدث بشكل مرتبك للغاية .. سمعت نصيحة والدها حين أشار عليها باستعمال القطط لقتل أم أحمد ، وهذا كان واضحاً فيه أنها تحايلت علي الأمر كي تظهر الوفاة قدرية ، ورغم ذلك تدفن الجثة ! .. إن كانت قد قررت من البداية أن تدفن جثة صاحبة البيت فلماذا صعرت القطط وهي تملك من أول الأمر أن تقتلها بضربة علي الرأس أو أي طريقة أخرى ! .. ثم ــ بالتبعية ــ تخرج الأحداث عن منطقها بشكل تدريجي ، فتبقى بسكنها الأصلي في ذات البيت الذي حدثت فيه الجريمة رغم أن كل المعطيات تسمح لها بالهرب ، فهي فتاة غريبة بلا هوية تقريباً في مدينة واسعة .. وتدخل في علاقة مع نبيل ابن القتيلة الذي لعب دوره ببراعة الفنان المسرحي شادي الدالي ..

ومن اللا منطقي أيضاً أن تدخل الميلودراما بشكلها القديم في عمل حداثي على هذا الطراز الفريد من نوعه ، فتنتهي قصة أحمد عرنوس بهذه الصورة مما هو ــ في ظني ــ يتنافي جملة وتفصيلاً مع طبيعة شخصيته وطبيعة شخصية زوجته إم إم المحرض الأساسي له علي الانتحار ، رغم أن الوصية نفسها التي خلقت الأزمة فتحت لها الخيار أمام أمرين هي لم ترى فيهما إلا أن تنتهى حياة زوجها وحبيب عمرها فوراً .. (الضنا باقي .. والسور الي ما بينك وما بينه يا تنطيه يا تهديه) فاختارت هدم السور رغم أن خيار القفز من فوقه لا زال متاحاً .. !

قصة عرنوس الذي أتقن الفنان وليد فواز كل تفاصيله وقدمه ببراعة لا مثيل لها ، قصته كان بها من البراح ما جعلني أتأمل خروج بعض الأحداث عن المنطق ، فبدا لي وكأن المؤلف لم يكتفي بالرمز العام ، وفضل هنا أن يجعل لكل شخصية الرموز التي تحملها بمنتهى الاستقلالية ليصبح العمل في نهايته مجموعة هائلة من الأطروحات الفلسفية ، وقد كشف هو شيء من هذه الأطروحات في حوار تليفزيوني حين قال أن بوسي كانت خير مثال بالتشبث بالفكرة والإيمان الكامل بها حتى التطرف ، هذا رائع ، ولكن إن استطاع الصانع أن يتقن كل تفاصيل صنعته فيجد لكل ما يحدث ما يكفيه من المبررات ..

شيء آخر كان ظاهراً بوضوح ، فإن الشخصيات حينما تصطدم في صراعها مع الآخر بحالة من الشد والجذب نحو مشيئة أحدهما .. يظهر علي الفور عنصر الابتزاز ، علي طريقة وحيد حامد في طيور الظلام (أنا أعرف عنك الكثير / وأنا كمان أعرف عنك الكثير) .. هذا الأمر لفت انتباهي لأنني لاحظت وجوده بوضوح في مسلسل نيران صديقة ووجدته هنا أيضاً ، فمن الواضح أن هذا الكرت أو أفضل كروت اللعب بالنسبة لمحمد أمين راضي رغم أن هذا العمل به شخصيات يتنافي الابتزاز مع طبيعتها كشخصية هند .. هي أكثرهم أخلاقية ، وأكثرهم انهزامية وانسياقاً نحو الجريمة بإرادة مسلوبة .. بدءً بقتل والدها ثم صنعها للتركيبة بعد ذلك .. هند ــ التي ساعدت الفنانة أيتن عامر علي أن تظهر بثوب جديد ــ بطبيعتها ليست علي هذا القدر من القوة التي واجهت بها محسن (الفنان أحمد العوضي) أكثر من مرة .. !

وعن الممثلون فإن مشاهد الجنوب قد شهدت نجوم أثبتوا أنهم مبدعون بطبيعتهم .. قدموا الصعيدي بصورة بعيدة عن اكليشيهات الدراما ، محمود حافظ في دور الدُكش وخالد كمال في دور حمادته ، كل منهما قدم صاحب النفوذ بصورته الخاصة ، ما بين سطوة الدكش ومكر حمادته كانت تكمن المتعة .. وعن ماجدة فإن كيد النساء إذ يتحدث لا يجد من بلاغة القول ما ينصفه ! .. الفنانة شيرين الطحان قدمت دور من طراز فريد ، فكانت له مبدعة من طراز فريد .. وشحاتة تلك الشخصية المتغيرة الخطرة .. بدأت مع أول الأحداث مهزومة ومستكينة ، وانتهت بها الأحداث أن ترسم سيناريو لجريمة قتل .. الرائعة إبتهال الصريطي بنظرتها المميزة في تتر البداية (في عنيها خلاصك) .. كانت قادرة علي أن تملك مفاتيح شخصية شحاتة بتقلباتها بنعومتها وهدوءها ، ومكرها حين يلزم الأمر ..

ولا يمكنني بالطبع أن أغفل الظهور المغاير لـ (أبانا الذي في المسلسل) .. سيد نفيسة صاحب السطوة واللين .. المستكين علي كرسيه الخشبي العتيق .. الفنان أحمد فؤاد سليم المبدع دائماً ، أبحر وأخذنا معه في قلب سيد نفيسة النابض ، ومشاعره المتداخلة ، وأفكاره المتناقضة ، وحكمته ، وغضبه ، وضحكته العابثة .. !