بقلم/ إيمان الزيات

إيـــمان الزيـــات

أستطيع الزعم أن (السرد النسوي المعاصر) بشقه الذي يرفض هذه التسمية أو يقبلها، لم يخض ميدان السرد بكل تحدياته وإبداعاته للبحث عن المساواة مع الرجل، لم تكتب المرأة العربية لإرضاء طرف ما أو وهي تحمل صورة الرجل في ذهنها كلما أمسكت بالقلم.

لقد خاضت الأنثى السرد لكي تقدم رؤيتها لهذا العالم من منظورها الخاص، وكيفما أحبته أو أبغضته، ولربما كانت عيناها أقدر على التقاط الكثير من تفاصيل هذه الحياة، فقراءة روايات لأمثال (أحلام مستغانمي، سحر خليفى، بتول الخضيري، غادة السمان) كفيل بجعل السرد سجلاً لأكثر التفاصيل التصاقاً بالإنسانية.

وكما أرى حالياً فإن المرأة التى أمسكت بشعلة الإبداع السردي منذ بداية انطلاق (السرد النسائي) في ثوبه المعاصر بحقبة الستينات والتى تتميز بالجرأة والتجريبية على مستوى الأسلوب والمضمون معا، وعلى أيدى أديبات مثل (غادة السمان)  و(إملي نصر الله).

مهدن الطريق الإبداعي الوعر لأديبات هذا العصر واللائي مازلن يقبضن على تلك الشعلة بإيدولوجية تتناسب طردياً مع معطيات زمنهن ومتغيراته المتلاحقة اللاهثة ..

وتفرق الباحثة المغربية (رشيدة بن مسعود) فى دراستها السباقة (عن المرأة والكتابة وجماليات السرد النسائي) بين الكتابة (النسائية والنسوية) .. فالأولى لا تتبنى فيها المرأة موقفاً مسبقاً من الرجل فتخرج كتاباتها بدون فكرة ولا اتجاهٍ أيدولوجي محدد الأطر، أما عن الكتابة (النسوية) فهى توظيف الأدب وجعله أداة للاحتجاج على الأوضاع وتغييرها.

ويتم ذلك على محاور ثلاثة هى ..

* الكتابة في مواجهة سلطة المجتمع والأب والزوج.

* الكتابة بالجسد وفيها أن الجسد يمكن أن يكون استعارة كبرى للكون ودلالة على الذات والأفكار.

*  الكتابة والقضايا الكبرى .. وفيها تخرج المرأة من حيز ذاتها إلى مساحات أرحب ومشكلات تتسم بالعمومية وتعود أثارها عليها.

 

وتطرح الكتابات النسائية من خلال مجموعة من الخصائص النوعية والجمالية وهي :_

_ البحث في الذات.

_البعد التراجيدي.

_ الاعتراف والبوح.

_الحاجة إلى الانعتاق والتحر.

_التدفق السردي.

_التركيز على اليومي والتفاصيل وشدة الملاحظة.

 

وبنظرة متأملة على عناوين الكتابات السردية للأديبات السكندريات فى الوقت الراهن سنجد أنهن يكتبن متكئات على تلك المحاور مستخدمات جميع العناصر والخصائص السردية الجمالية والبنيوية.

فأديبة كالأستاذة (سهير شكري) التى تستطيع تجسيد أدق التفاصيل والانفعالات، والتى عاصرت فترة الانكسارات الوطنية حيث انكسرت معها الكثير من الأحلام إما بالموت أو الرحيل، إنها تلاحق مخاوف المرأة وانكساراتها بقلمها من خلال حالة من التدفق السردى مستخدمة تارة عنصر (البوح والاعتراف) وتارة أخرى (البعد التراجيدى) المتسق مع الأفكار في مجموعتها القصصية (امرأة لا تطل من النافذة) حيث جاءت المجموعة ابتداء من عنوانها مغايرة لما ألفته المرأة ولما هو معروف عنها، لغتها المتقنة ورتم الأحداث السريع الذى يجعلنا نكاد نلمس الأحداث ونسمع وقع آثارها يجعلنا نتوحد مع الحالة ونجد لها الأعذار.

أديبات الهرم الرابع

أما عن الأديبة (ماجدة جادو) تلك المرأة المثقلة بهموم الوطن والحريات والمهمشين والتى مارست الثورة والاحتجاجات وسلبت حريتها فى آونة ما والتى تجسد فى مجموعتها القصصية (زهرة بلون الدم) ملامح الكتابة عن القضايا الكبرى خروجاً من الذات وعودة لها فى دائرة من المحاولات المستميتة للإصلاح المجتمعى والذاتي، مستخدمة أسلوباً ساخراً فريداً وخاصاً بقلمها وقدرتها على فك وتركيب المفردة الواحدة واعطاء القارئ قراءات متعددة فى لحظة تجعل لها نمطاً متمايزاً عن الأخريات، إنها تحاول دوماً ضرب الأمثال على قوة المرأة وجلدها بشخوص مجموعتها المثابرين.

ثم ندخل فى منعطفات (تعاريج) وهو عنوان المجموعة القصصية للأديبة (عبير درويش) والتى تنغمس فيها داخل الذات الأنثوية لترصد تلك السلطة الاجتماعية والنفسية التى يفرضها المجتمع على المرأة ويدلف بها فى مجموعة من الطرق المتعرجة والتى لاتصل بها وبأى حال من الأحوال إلى نقطة تحقق بها رغباتها وأحلامها كأنثى وكأم تتحدث عن مرحلة منتتصف العمر ومشكلاتها مستخدمة أكثر الألفاظ التى تخدم فكرتها لأبعد حد.

“وأنت دوماً تضعني على محك الطريق، أقطع المسافة ما بين خطوات وئيدة تجاهك، أتحسس فيها مواضع أقدامي بروية، وبين الاتجاه الآخر، أحصي عدد خطواتي في طريق العودة منكسة الرأس، أحمل بين طيات نفسي آلاف اللعنات لقلبي الذي عاد بي إلى نفس التعريج، ما بين طريق عودة أحفظ معالمه وتعريجاته ولا ألقي بالاً له، في كل مرة، أو أحتاط وأسلك طريقاً مغايرًا، أو أسلم قدميَّ لطريق الذهاب دون استراق النظر للخلف، أو أن أبقى على مفترق الطرق، تتجمد قدماي، وكذا قلبي، وأحتفظ بعقلي معافى من التعريجات.” (تعاريج)

أديبات الهرم الرابع 2

أما إذا أردنا أن نتناول مثالاً حياً نابضاً لاستخدام (البعد التراجيدى) وتقنية (الترميز)، وقوة الملاحظة فإننا حتماً بصدد تناول كتابات الأديبة (ريم أبو الفضل)، تلك التى تخلق عالماً من الرصد الموجع لنقائص المجتمع متمثلة فى شخوص قصصها، تجردها من عباءة التمويه وتسقط عنها الأقنعه ثم ترمى بها بين يدى القارئ عارية بجميع سوءاتها، دون إصدار حكم شخصى منها عليها.

وتتجسد تلك التقنية وهذه الايدلوجية واضحة جلية في قصتها (كامل الأوصاف) وهى إحدى قصص مجموعتها (تاء وأخواتها) والتى جاء عنوانها معرباً عن مكنون عقلها وميولها وتلك الزاوية التى تخبرنا من خلالها أنها سوف تتناول منها الأفكار. وتأتى المفارقة بين العنوان (كامل الأوصاف) وبين بطل القصة والذى لا تمت ممارساته السرية ولا تندرج بأى حال من الأحوال تحت هذا المسمى.

إنها تمنح القارىء ألما موازياً لتقبله فكرة الكمال الزائف دون محاولة إعمال عقله ولو قليلاً بأن هذا أمراً مستحيلاً ومثيراً للشكوك، فتجعله شريكاً ضالعاً فيما آل إليه حال المجتمع من تشوه وما أصبح يتسم به من نقائص.

 

(أصبحت الحارة عاقراً، تخرج منها النعوش ولا تحمل فيها البطون، انتظرت نسلاً لم يأت بعد، ولم يعد هناك أولاد يلعبون تحت شرفتى ..

اقتصرت الحارة على ..

عوانس يطللن من الشرفات ..

ودراويش يرتادون المقام ..

وشباب لم نرهم إلا شيبة ..)

(من قصة: كامل الأوصاف)

 

أما عن الأديبة  (بسنت حسين) فإن كتاباتها تنطق بالحاجة إلى الانعتاق والتحرر متكئة بشخوصها على ذواتهم منطلقة بهم من الوهن إلى القوة، ففى مجموعتها القصصية (أغنية لم تغنها داليدا) والتى لا ينتمى عنوانها لأى من قصص المجموعة وكأنه دلالة منها على أن كل القصص التى تقبع بين دفتى هذا الكتاب ماهى إلا ترانيم وأغان لم تغنها الشخوص، ولكنها حاولت تحقيقها، إنها تكتب بلغة واضحة ومباشرة ومفردات صريحة دون تورية لتصيب كبد الحقائق وتصل للأهداف من أقصر الطرق.

 

وتعد مجموعة (طائر الخريف ) للأديبة الشاعرة (أمل رفعت) المثال الحي على الاعتراف والبوح الأنثوى بلغة شاعرية راصدة للحظات مقتنصة من حياة المرأة المهجورة والواقعة تحت وطأة الخذلان والتى تجاهد لتحقيق ذاتها وكينونتها، إنها لحظات من الألم المتتالى والذى لا يبدو له نهاية ولا يجعلها أبداً محملة مع الوقت بالضغينة إنها ترصد المرأة الوديعة التى لا تكن للرجل ضغينة ولا تتخذ منه موقفاً مسبقاً.

(أنا قد سئمت من الحب وكل مالدى خياران إما أن أموت بالحب أو أبقى على قيد الحب )

(من قصة: باقية على قيد الحب).

أما عن الأديبة (حنان سعيد) تلك التى استطاعت خلق عالمها المتفرد بأوركسترا من المفردات التى لا تشبه أحداً آخر سواها، والتى أجادت تطويعها لخدمة أفكارها من منظورها المتفرد فى مجموعتها القصصية المثيرة للدهشة (ممرات سرية للفرح)، وكأن على الأنثى أن تستكشف وتحاول دوماً أن تجد ممراً ما ينعطف بها فى طريق الفرح بعيداً عن طرق الحزن الرئيسية .. جعلت الشخوص فى الأغلب تنظر من خلال (نظارة) بنظرات غير مباشرة تجعل الأشياء مختلفة ومغايرة لما هى عليه فى الحقيقة.

 

والمطالع لكتابات الأديبة (شيرين طلعت) والتى كتبت مجموعتها القصصية (الغرفة 20) وهى ترتدى قفازاتها الحريرية تارة وتخلعها تارة أخرى، فبداية من الغلاف سنفهم مبدئياً ما تريد إزاحة الستائر عنه من منظورها الخاص، محاولة رصد حالات الانتظار فى حياة الأنثى والترقب والخوف والمراقبة التى تقع فريستها فى أغلب الأحوال، يتجلى فى أدب شيرين طلعت الصور المتميزة والتى سيقت إلينا موقعةً من مخيلتها الخصبة والمتفردة إنها تكتب وهى واقفة على أطراف مشاعرها تكتب فوق جدر الدهشة، مستعينة بالمفارقات والمونولوجات التى تنبع من فكر الكاتبة الخاص ..

فعلى سبيل المثال فى قصة (الخال) نجد روعة الوصف ودقة التفاصيل يتألقان حين تقول:

“دخَلَ على قريتِنا رَجُلٌ طويلُ القامة، ضعيفُ البِنية، يبدو أن السفرَ أنهَكَه، بجبهةٍ عريضةٍ تتنازع الخطوطُ الطولية مع العرضيةِ فيها، لتشكل خارطةً مِن الأحزان التي مَر بها، لديه أنفٌ رفيعة تستغرب مِن قدرتِه على التنفس من ضيق فتحتيها، وجهُه مثلثٌ غير متساوي الأضلاع ..لكن قد تنحسر في زاويتِه إذا أطلتَ النظرَ كثيرًا إليه، ينشر القلق أينما حل.. لديه شامةٌ سوداءُ كبيرةٌ في خدِّه الأيمن!”

 

وبعد هذا التناول السريع وإلقاء قبسات من الضوء الوامض على إبداع الأديبات السكندريات أستطيع أن أزعم أنهن يبنين بأفكارهن هرماً رابعاً من الإبداع السردى متباريات مع الزمن والأحداث والتطور ومع المواقف وتغير المناظير والتوجهات المجتمعية محاولين الوثوب فوق ما تبقى من حواجز مازالت تواجه المرأة، حواجز غير مرئية لكنها محسوسة لذلك نستطيع القول أنها حواجز تفوق فى صعوباتها وآثارها السلبية على صعوبات المرأة بالأمس، إلى تلك الأقلام خالص تحياتى وتقديرى.