14625365_10210935968180411_1456665589_n
الكاتبة نهى الشاذلى

تنخفض درجة الحرارة قليلًا حتى تشي للأنام باقتراب مجيء الشتاء. تراودك نسائم البرد عن ذكرياتك القديمة، فلا تملك إلا أن تحنّ لتفاصيل دقيقة كنت تحسب أنها هباء.ً

يؤذّن الفجر ويصيح الديك وتهب نسمة ممسوحة بالثلج، فتجلب لك صورتك من عشرة أعوام وأكثر، حينما كنت تتلحّف سعادتك ويصل صوت إخوتك، أمك وأبيك إلى أذنك فيبعث في قلبك اطمئنانًا وأمانًا.

وذات مطر، تختلط رائحة التراب الممزوج بالمياه النازلة لتوها من السماء بأنفك، فتثير فيكَ الحنين إلى ليالي الشتاء الدافئة بقرب الأحبة، ودخان قهوتك الذي لطالما راقبته يتصعّد من الفنجان إلى نقطة ما فيتلاشى كأنه لم يكُن.

رائحة الخبز الطازج تخبرك كم اشتقت لهم، وقطرات المطر على نافذتك تطالبك بالاعتراف كم كنت سعيدًا هانئ البال وقتها. تسمع أغنية قديمة اعتدت سماعها في المنزل القديم، وتتخيّلها مؤلفة للجارة التي أخفيت في قلبك إعجابك بها، فتذكّرك بكل ما اختلجت به نفسك وقتها، وكأن هذه الفتاة ما زالت في الرابعة عشر من عمرها، وكأنك إذا فتحت نافذة غرفتك الآن ستجدها واقفة في الشرفة كعادتها.

رائحة الخريف تنبّهك بأن سنة بحالها شارفت على الانتهاء، وأن شتاء جديدًا سيطرق الأبواب، فيتراءى لك الطريق الذي اعتدت أن تسلكه يوميًا إلى المدرسة، وقد غشت شبورة كثيفة الجوّ، وحذاءك الصغير يتفادى بقع الطين المُشرّب بالمياه من أثر مطر أمس. تحمل حقيبتك على ظهرك وتتباهى بزيّ المدرسة الأزرق مُترنّمًا ببراءة وسع الكون.

ذكرى تلو ذكرى تشعل فيك الحنين لسنوات بعيدة، وأناس مهما ابتعدوا وهاجروا وصعدوا إلى السماء ما زالوا يتنفّسون بداخلك، ومن وراء قفصك الصدري يحتمون من الموت، ويحتضنون من خلالك الأمان كل الأمان، وينعمون في بيت قلبك بالحب كل الحب. لا يأخذهم منا موت، ولا تبعدهم عنا السنون والمسافات.