احمد حنفي

بقلم / أحمد حنفي

(1)

في الواقع .. أصبح من الصعوبة بمكان أن نتحدث اليوم و نحن بصدد نصوص نثرية أن نعلق كل ظاهرة نراها بقصيدة النثر ؛ ذلك أن قصيدة النثر قد خرجت عن مضمارها الذي حدثتنا عنه “سوزان برنار” و خرجت كذلك عن الإطار الذي طالعنا به رواد تلك القصيدة.
فإلى أي مدى ذهب “أشرف دسوقي” بقصيدته النثرية ؟ و ماذا قدم ؟

و ها نحن بصدد الحديث عن مجموعته “الجياد” ـ ثلاث قصائد ضمن ديوانه “ليس الآن” ـ كنموذج نثري لشاعر يتصدر أحد منابر الشعر السكندري المعاصر ، ذلك الشعر الذي افتقر ـ و ما يزال ـ للممارسات النقدية الجادة التي تقف على أبعاده الفنية و النفسية و دوافعه الإبداعية بالنقد و التحليل ، و لربما يحالفني الحظ بمتسع من الوقت قريباً لعرض نماذج أخرى من الشعر السكندري المعاصر لمحاولة وضع أطر عريضة لأهم ملامحة و اتجاهاته .. و ها نحن نبدأ.

(2)

هناك قيم خاصة لدى المبدعين تنعكس ـ بالضرورة ـ على إبداعاتهم ، و أن تكون قيمة الإحساس بالذات هي الأولى لديهم ليس من الغريب في شئٍ ، و الإحساس بالذات ليس معناه أن يشعر المبدع بأنه الأفضل و الأنضج تجربةً و الأبصر و الأنفذ رأياً ؛ و لكن قد يكون الإحساس بالذات إحساساً سلبياً فيرى المبدع نفسه المهمش و العادي .. و في الحالتين يصير المبدع ” لا منتمياً ” لمجتمعه ، غريباً عنه ..!
و أن توضع الذات بين شقيِّ رحى تبرز لنا قيمةً أخرى أهم ، و هى قيمة “عبور اللحظة الراهنة” ، و هي وحدها القادرة على التفرقة بين ذاتٍ موجبةٍ عابرةٍ لهزائمها و ذاتٍ سالبةٍ تنخرط في سياق أزمتها و تنسحق فيها.
إنه جواد “أشرف دسوقي” الذي نرصد ، ذلك الجواد العربي الأصيل الذي يصهل و يجري غير مكترثٍ لراكبه .. إنه خليطٌ من قيم الحرية .. و الأصالة .. و النُّبل:
“لي حصان جواد و قبعة ليست نافلة
يصهل الجواد قدر ما يمكنه .. و يعيه
لا يبالي هيئة الراكب الخيال
يجري الجواد في الصباح
يسبق الأقران .. في صمت نبيل”
بالطبع .. نعلم أن الجواد دالةٌ مفتوحةٌ لنا على مصراعيها ؛ فالجواد العربي أرقى أنواع الجياد ، أقواها ، أذكاها ، أنبلها ، و أجملها .. فإلى أي شئٍ يدل هذا الجواد ؟ أيدل على العروبة أم على ذات الشاعر ؟
و الإجابة على هذا التساؤل ـ الذي ربما يبدو ساذجاً في طرحه ـ ذلك أن قصيدة النثر قد تحولت من العام إلى الخاص و من طرح الرؤيا العامة إلى وجهة النظر .. لكن مجرد الوصول إلى تلك الإجابة ـ تجعلنا نقف أمام ما تطرحه قصيدة النثر لدى “أشرف دسوقي” .. فلعله يطرح مفهوماً جديداً لتلك الكتابة لم نعتده قبلاً في قصيدة النثر .. و يطالعنا الشاعر بالأزمة منذ البداية:
“لا يرقب الآخرين ..
يعلنون فوز جوادٍ مبتور اليدين

 

في سباق كرة اليد بالأمس
ثم يعلنون فوزه في سباق الحواجز
رغم سبق جوادي بثوانٍ معدودات !”
لقد ظُلم الجواد إذن .. دخل مسابقةً و فاز فيها لكن لجنة التحكيم أعلنت فوز جوادٍ آخر مبتور اليدين ! إن تلك الأزمة قد يمر بها أي فردٍ منا .. و لكن بالضرورة ستختلف ردود أفعالنا .. فكيف واجه الجواد هذه الأزمة ؟ و كيف عبرها ؟

 

لقد اكتفى بأن يعلن اشمئزازه من لجنة التحكيم و مجلس الأمن و اليونسكو .. إنه لجوادٌ عربيٌ أصيلٌ بحق !!!
فلم تعبر (الذات/الجواد) هذه اللحظة الراهنة عبور الفاتحين .. لم تحول الذات هزيمتها لنصر مؤزر .. و إنما كانت ذاتاً سلبيةً .. مستسلمةً .. هاربةً ..
“لقد سقط الجميع من ناظريه ..
و أعلن فوزه بطريقةٍ فردية ..
و تركني … وحيداً ..”

و بانتهاء النص الأول لم نجد إجابةً على تسائلنا السابق ، فلم يخبرنا الجواد بكنهه ، أصار معادلاً للذات تبث من خلاله هزيمتها أم رمزاً للعروبة المستأنسة الداجنة ؟!

(3)

و يستمر الجواد في هروبه .. رغم حصوله على جائزة أخرى .. ليطفو الآخر على سطح الأحداث ممثلاً في شخصية “الجواد البلطجي” ليذكر بأنه صاحب الفضل عليه كي يحصل على هذه الجائزة ، ليضيق الجواد ذرعاً بهذه الممارسات فيركل الجائزة بقدميه و يحطمها و يغير رقم الهاتف و يستمتع بعوالم أخرى من خلال الأطباق (الستالايت) ..
“ركل جوادي الجائزة بقدميه الخلفيتين
و أسمعَ صوت تحطمها للطرف الآخر
حاول الطرف الآخر التعليق
لكن جوادي .. غيَّر رقم الفاكس و الهاتف
و أمام “الأطباق” .. آثر أن يستمتع بعوالم أخرى!”
و بظهور الآخر على الحدث تنجلي لنا الأزمة كونها أزمة ذاتية جداً .. للدرجة التي تجعل الجواد يلعن ذلك الآخر المتسلط:
“ظل جوادي يلعن كل عناكب هذا الزمن”
و حين يطفو الآخر على سطح الأحداث بجدليته و صراعه مع الذات نعرف أننا أمام نصوص ذاتية .. لا تضع الآخر إلا في موضع العدو / المحتال / الماكر.
و على هذه الوتيرة الذاتية نسج العديد من الشعراء قصائدهم ؛ حيث الذات المسلوبة الضائعة ، و الآخر الظالم المتسلق المتسلط الذي يمارس قهره على الذات.

و بذلك تتحد ذوات الشعراء في الأزمة و تختلف في طريقة عبورها لتلك اللحظة الراهنة المحتقنة بفعل الآخر ، ذلك الآخر الذي يبدو نمطياً في معظم قصائد (صراع الذات/الآخر) من كونه يمارس على الذات كل أسباب القهر و التعذيب.

(4)

و ها هو الجواد قد مات في القصيدة الثالثة .. ليشعر الآخر بنوعٍ من الشفقة تجاهه ..
“أشيدوا به الآن ..
أخرجوه من المقابر ..
و استعيدوا سيرته
و أثنوا عليه ..
كان و كان !”

قد عرف الآخر الآن قدر (الذات/الجواد) و لكن بعد فوات الأوان.
مات الجواد إذن .. إنه ذات معطلة .. هرمة .. عجوز ، و لهذا أراد الآخرون تنصيبه ملكاً للرعاة ..

 

“ماذا لو نصَّبتموه ملكاً أو سيداً للرعاة ..
الآن أو سلَّمتموه دكاناً في أحد الأقبية ؟!”

إنها محاولات الآخر ـ و الذي اتخذ صورة العقل الجمعي ـ في مكافأة هذه الذات ، ربما على سلبيتها و عدم مقاومتها لهم ، و بالفعل نصَّبوه سيداً و لكنه عجوزٌ لا يمكنه الوثب أو التمييز بين الألوان:

“هل يمكنه الوثب الآن في تراكات التنافس
ليسبق أضعف المأفونين ؟!
لم يعد جوادي يميز اللون الأحمر
من لون الحارات الست !!”

هذا الجواد الميت / المعطل / الهرم .. نراه مندهشاً من استدعائه من المقابر:

“أكلما مات جوادٌ يصفقون ؟!!”

و لكن رد فعل الجواد في هذه اللحظة كان مغايراً عن ذي قبل .. فكيف عبرت الذات / الجواد هذه اللحظة الراهنة ؟
إنه يبصق على الجماهير و يولِّي خارجاً :

“تذكر فعلته فيما مضى ..
بصق على الجماهير ..
و خرج”

لقد اتخذ رد فعل إيجابياً في ظاهره ، لكنه مازال سلبياً حيث لا يتعدى كونه اعتراضاً على الآخرين ؛ فللجواد فلسفةٌ ، حيث يرى أنَّ لذة الانتصار آنيةٌ و لا يعوض عنها حفل تكريمٍ بعد موته ..

“فاللذة آنية ..
و الفوز مطْلق ..”

و هكذا اتخذت الذات طريقين لعبور اللحظة الراهنة ، أولهما الاستسلام و الهروب دون مواجهةٍ صريحةٍ ، و ثانيهما طريق في ظاهره إيجابي ممثلاً في الاعتراض على تكريم جاء متأخراً.
و قد عمد “أشرف دسوقي” إلى إنشاء علاقة بين الذات و الجواد ، أو بالأحرى بين الذات و الذات ، تمثلت في طرح قضيتها و خلعها على ذلك الجواد (الرمزي) الذي لا يتعدى كونه مرآةً لها تسترت خلفه لعدم امتلاكها الجرأة في الإفصاح عن هزيمتها علناً ، مما يلائم طرقها في عبور اللحظة الراهنة من سلبية وهروب تارة ، و إيجابية منقوصة تارة أخرى.
أما عن موت الجواد و استدعائه للحياة من قِبل الآخر ـ متمثلاً في العقل الجمعي المناهض للذات ـ فلا أعزوه كتنويع فنتازيٍ أو شكلٍ من أشكال الواقعية السحرية ، بقدر ما هو رمز لموت الروح داخل الجسد ، ليستحيل إلى جسدٍ معطلٍ مستسلمٍ ، كرد فعلٍ سلبيٍ تجاه المجتمع / الآخر.

(5)

بعد أن استعرضنا أزمة الذات في النصوص الثلاثة السابقة وجدنا أن العلاقةَ بين الذات و الآخر علاقةٌ عكسية ؛ فحين يعلو الآخر تنسحب الذات ، و حين يهادن الآخر تتمرد الذات فتعلو على الحدث !

و بعد .. فقد بقيت لدي أربع نقاط تجدر الإشارة إليهم:

1) النصوص الثلاثة المكونة لمجموعة “الجياد” ليست مجانية.

2) تلك النصوص ليست مكثفة ؛ و المجانية و الكثافة شرطان أساسيان من شروط قصيدة النثر لم يلتزم بهما الشاعر.

3) يوجد تداعٍ في كثير من الأسطر الشعرية إذا تخلص منها الشاعر لكانت نصوصه أكثر إحكاماً و قوَّة.

4) هناك الكثير من الأسطر الشعرية موزونة.

لنخلص من ذلك بنتيجتين:

أ‌- الشاعر لم يختلف في كتابة القصيدة الذاتية عن غيره من الشعراء المعاصرين له ؛ فالذات دائماً مقهورة مظلومةً ، ليصبح عبور اللحظة الراهنة هو وحده الذي يميز شاعراً عن آخر.
و الأمر اللافت للانتباه ـ و الجدير بالدراسة ـ أن جميع الشعراء يعبرون عن ذلك الجزء المقهور المنسحق من ذواتهم و يسكتون عن الجزء الآخر المظلم الذي يمارس قهره و تسلطه على الآخر بدوره و ربما على ذاته نفسها ، و ليس من البشرية في شئٍ أن نجد ذلك الإنسان المظلوم أبداً ، المقهور دوماً ، و الذي لا يمارس ذات القهر على من هم دونه أو على ذاته نفسها من باب المبدإ القائل “لكل فعل رد فعل” ، و إذا سلَّمنا بوجود هذا الإنسان فليس من المعقول أن يكون القهر أو الظلم الواقع على الذات أحد مسببات الشعرية و مقوِّم من مقوماتها ، أو أنه ليس من بين المتسلطين أو الطغاة شعراء أو أدباء ؛ إذ أن الاستعداد الفطري للكتابة و طرق التفكير المؤدية للخيال المُنتج ـ اللازم للإبداع ـ و الموهبة الشعرية عامةً ليست حكراً على المقهورين وحدهم دون غيرهم ، فلماذا إذن يصدر الشعراء و هم بإزاء الحديث عن (صراع الذات/الآخر) من معين القهر و الانسحاق ؟ و لماذا لا نجد ذاتاً شاعرةً لديها ما يكفي من الجراءة لفضح نفسها على القصيدة و توضيح مدى تسلطها على الآخر ربما كنوعٍ من التطهير ؟!

ب‌- النصوص الثلاثة السابقة واقعة في منطقة وسطى بين قصيدتي التفعيلة و النثر ؛ فهى بالأحرى محاولات أولية لشاعر تفعيلة مجيد يتلمس طريقه لقصيدة النثر.

و قصيدة النثر الحالية قد لا تراعي المجانية و التكثيف ؛ بل تجاوزت ذلك عند بعض كُتابها ، فنصوص أشرف دسوقي الثلاثة تقف بين طريقين شأنها شأن كل نقاط التحول الإبداعي من مرحلة لأخرى