انا الان خارجا من ضاحية بروكلين الشهيرة بمدينة نيويورك متجها الى مطار جون كيندى على الطريق السريع المسمى بالحزام وسمى بهذا الاسم لانه يحيط بالمدينة  من الناحية الغربية مانعا المحيط ان يبتلعها فى غفلة من اهل المدينة.

الجو رمادى  كوجوه الناس …..كل الناس .. والايقاع ثقيل ثقل الهموم على القلب  والتلج يوشك ان ينزل ثانيا وعلى الكرسى المجاور لى بعض اوراق التحقيقات لبوليس نيويورك وصورة من تقرير الطبيب الشرعى تثبت ان منتصر قد مات بالسكتة القلبية وانه لا شبهة جنائية فى موته وألبوم صور ابيض ومصحف قديم هى كل ما تبقى من منتصر. ومنتصر هذا كان صديقى  فى السكن رجل يكبرنى بكثير كان طيب القلب محبا للناس عاشقا للدنيا ومتعها.كنا نلتقى فى كثير من الامور وكنا نختلف فى الكثير منها ايضا شخصية غريبة الاطوار كان يعامل الدنيا كانها الماء يتفلت من بين اصابعه يحاول ان يستمتع بكل لحظة فيها كان ينام قليلا ويسهر دائما وكان دائم القول باننى اكبره سنا خاصة حين احاول ان انصحه حتى يغير من اسلوب حياته الفوضوى الامر الذى جعله يعيش مشاكل دائمة لا حل لها.

جاء منتصر الى هذه البلاد منذ اكثر من عشرين عاما امضى نصفها الاول كأى شاب ابهرته الغربة وليالى الاضواء والمدن التى لا تنام جاء الغريب طائرا حالما بالنساء و المال فأمضى العشر سنوات الاولى متنقلا بين قلوب الشقراوات التى لا ترحم قاهرا الحرمان حتى وجد نفسه متورطا فى زيجة من امريكية حسناء هى ليست سيئة للدرجة ولكن طبيعة معتز الكارهة للقيود والمسئولية وكذلك اختلاف الافكار والتقاليد جعلت استمرار الزواج من المستحيل مماجعل هذه السيدة ترحل الى ولاية اخرى أخذة معها سارة وصوفيا هما نتاج هذا الزواج المفتعل .

كان رحيل سارة وصوفيا بمثابة طعنة ونزيف لا ينتهى من الاحزان فى قلب منتصر.عشرون عاما لم يحقق فيهم منتصر شيئا من الثراء والراحة التى كان ينشدها حين أتى الى هذه اللعنة حتى ان أباه وامه ماتا وهو بعيد ولم يراهما الى مرة واحدة حين نزل الى مصر فى زيارة قصيرة بعد زواجه حتى ترى امه صوفيا وكانت فى عامها الاول ورحل على ان يعود فى العام المقبل… ولم يعد.. ولن يعود.

كانت شقتنا اناومنتصر مكونة من غرفتين وصالة صغيرة غرفتى منظمة جدا وغرفته كانت عنوانا للفوضى وكانت هناك صورة لسارة وصوفيا معلقة على الحائط وهما يلعبان على شاطى البحر وعلى وجه كل واحدة منهن ابتسامه تكفى لمحو كل احزان العالم.كنت انظر للصورة عند نزولى الى العمل كى استمد منها الامل وعند رجوعى فتعطينى احساس غريب بالراحة والسعادة وما تمنيت ان يكون لى من حياة منتصر شىء غير هذه الصورة.

ألبوم الصور الابيض كان هو كل عذاء منتصر على تحمل ايام الوحدة وكان دائم التصفح فيه.كان الالبوم يحوى كل ذكرياته فى عمره الاول بداية بصور اباه وامه وهما صغيران ونهاية بصورمنتصرهو واخته فريدة التى كانت توأمه وكانا مرطبتان كثيرا كأى توأم وكذلك اخوه الوحيد خالد الذى كان تقريبا فى مثل سنى.

كان منتصر كثيرا مايحدثنى عن الصور ومناسبتها كيف واين اخذت حتى صرت احفظ حكاية كل صورة عن ظهر قلب. وفى يوم وفاة منتصر عدت الى الشقة قرب الفجر تقريبا فوجدت منتصر ينام على الاريكة فى الصالة وهو فى كامل ملابسه وعلى صدره يقبع الالبوم مفتوحا .أخذت الالبوم واوقظت منتصر كى يدخل ينام فى غرفته فقام وهو نصف نائم وأخذ الالبوم من يدى ودخل غرفته  واغلق الباب ووقفت انا فى الصالة انظر الى صورة سارة وصوفيا مبتسما فقد صارت الصور تلعب دورا كبيرا فى حياتى انا ومنتصر.

الساعة الان قاربت الثانية عشر حين استيقظت من نومى على صوت ارتطام بالارض افزعنى  فقمت مسرعا فاتحا باب غرفتى فوجدت منتصر ملقى على الارض فى قلب الصالة اسرعت اليه فزعا محاولا ايفاقه بكل الطرق ولما يأست قمت بالاتصال بالاسعاف وفى اقل من خمس دقائق كانت شقتنا تعج برجال الاسعاف والبوليس وانا أقف ساندا ظهرى للحائط مذهولا غير مصدق لما يحدث وكأننى مازلت نائما وهذا كابوس مزعج حتى افقت على صوت احد رجال الاسعاف وهو يقول مات..عندها فقط ادركت مايحدث واجهشت فى البكاء حتى تجمع حولى كل رجال البوليس فى محاولة لتهدئتى ومواساتى.

حدث كل شىء بسرعة نقل منتصر الى المستشفى الاتصال بزوجته واولاده  وقمت انا بالاتصال بأخته فريدة وأخيه خالد الذى اصر على الحضور لدفن اخيه وطبعا كان هذا مستحيلا بسبب طول اجرائات الحصول على الفيزا من القاهرة ولكننى اقنعته بأن يتركنا ندفن اخيه اولا وياتى هو بعد انهاء اجرائات الفيزا لمعرفة مكان دفن اخيه والاطمئنان على بناته الذى من المفروض أن يكون عمهما ووافق خالد على مضض أما فريدة أخته فقد كانت الصدمة عليها كبيرة حتى انها افقدتها الوعى لعدة ايام .أما انا فلم استطيع ان ادخل الشقة لعدة ايام الا  بمصاحبة احد الاصدقاء الذى كنت ابيت عنده مؤقتا حتى استطيع ان اتمالك نفسى واعود الى الشقة مرة أخرى محولا التعود على الوضع الجديد.

كانت مراسم الدفن غريبه الي ابعد الحدود فقد قمت فيها بدور المصري المحترف اللعب بالثلاث ورقات الامر الذي كنت اكره فيه كثير من المصريين ولكنني كنت مدفوعا اليه فقد كانت زوجة منتصر تصر علي دفنه بالمراسم الامريكية وطبعا

كنت اريد ان يدفن منتصر علي الطريقه الاسلاميه حتي انني اضطررت للبكاء بين يدي هذه السيده في محاوله لاقناعها في ان يدفن منتصر علي طريقتنا وقلت لها ان منتصر لو كان حيا لاختارطريقتنا فهو شئ مسلم به نحن المصريين وفي النهايه وافقت علي مضض

ولكن بشرط ان تلقي هي والبنات النظره الاخيره عليه قبل دفنه كما يفعل الامريكان هنا وفي نفس الوقت رفض المسؤليين في المسجد

هذا علي اعتبار انه يخالف للشريعه الاسلاميه وقفت بين المسؤليين في المسجد اخطب واحاول ان استعطفهم محذرا انهم ان لم يقبلوا بهذا

فسوف تاخذ السيدة زوجها وتدفنه بطريقتها وفي مدافنهم وكان من بينهم رجل متفهم واشار باننا يمكننا ان نتم مراسم الدفن دون ان نغطي

وجه منتصر حتي يتسني لاهله ان يلقوا النظره الاخيره علي وجهه وبذلك نكون قد اخذنا اقل الضرريين وحتي نضمن ان يدفن منتصر في مدافن المسلمين ويالا العجب فلم يكسب منتصر من الدنيا شئ وحتي نهايته كادت ان تكون ايضا عكس ما يتمني ودخلت الزوجه المسجد والبنتان وهم يتوشحون بطرح بيضاء احضرتها اليهم بالكاد تغطي رؤسهم ودخلوا مرتابين الي المسجد لالقاء النظره الاخيره علي وجه منتصر وبهذا كانت مراسم الدفن مزيجا عجيبا من المسيحيه والاسلام. وخرجت من هذه الموقعه منتصرا احس نشوه الانتصاروالغريب ان الزوجه والبنات لم يبكوا ابدا بل ساد علي وجوههم الوجوم والصمت منذ دخولهم المسجد وخرجوا ببطئ شديد وكانهم لا يخرجون من المسجد بل من منتصر.

جائت زوجة منتصر بعد دفنه فى مقابر الجالية وأخذت كل شى كان يخصه حتى ملابسه وقمت انا بتوصيلها الى المطار وبعد ان وضعت في كف كل فتاه قبلة وقلت لها ماذا ستفعلين الان فى حياتك قالت ..لا شى فلم يكن منتصر موجودا بها على اية حال فقد جعلنى اتعود على عدم وجوده كذلك سارة وصوفيا فلم يرياه منذ اكثر من سنة..ورحلت ولم تترك شى سوى الالبوم الابيض ومصحف قديم كان والدمنتصر قد اعطاه اياه قبل ان يسافرالى امريكا وكان منتصر يعتز به كثيرا .اما انا فلشىء ما داخلى لا اجد له تفسيرا  قمت باخفاء صورة صوفيا وسارة حتى لا تجدها زوجته وتاخذها معها وكأننى اعتبرت ان هذه الصورة هى حقى فى منتصر.

انا الان فى الصالة الرابعة لمطار جون كنيدى فى انتظار خروج خالد مع ركاب مصر للطيران انا لم اره من قبل ولكنني سوف احاول التعرف عليه من خلال صوره التي كانت في الالبوم اعرف انه شديد الشبه بمنتصر وهو في مثل سنه…….       اعتقد انه هو ذلك الشخص الذي يسير بخطي سريعة نحو البوابه حاملا حقيبة صغيره في يده وفي يده الاخري حقيبة كبيرة نوعا ما يجرها علي عجلات ويالاغرابه الاقدار انه يكاد ان يكون منتصر حال وصوله الي تلك البلاد وان لم اكن رأيته حين اذ تقدمت اليه معترض طريقه مصافحا انت خالد…… البركه فيك

نعم انا هو انت محمد اكيد-

حمدالله علي السلامه-

الله يسلمك…….. احنا تعبناك كثيرا-

لاتقل هذا فان منتصر اخي كما هو اخوك—- عملوا معاك ايه في السفارة؟-

-لم يكن الامر بالسهولة……ولكن صوره شهادة الوفاة والجنسية وشهادات ميلاد البنات التي ارسلتها لي سهلت الامر كثيرا في الحصول علي الفيزا .

-انا اعددت لك كل شئ فسوف تمكث معي الي ان تعود لمصر كذلك رتبت لك ميعاد حتي تري بنات اخيك وزوجته وهي في انتظارنا غدا وبعدها تذهب لزياره قبر اخيك حتي تقرا له الفاتحه وتعرف مكانه —-كل هذا الحديث ونحن متجهين الي البوابه وفجاه توقف قائلا

-اسمع يا محمد سوف افعل كل هذا ولكن ليس الان فانا الان سوف اتجه الي شيكاغوا فان لي صديقا قديم ينتظرني هناك—وقد اعد لي عمل في نفس المطعم الذي يعمل به ويجب ان اذهب اليه والافاتت علي الفرصه.

ولكن……-

اسمع يا محمد امريكا كانت دائما حلما لي وكان منتصر يعارض بشده ولم يحاول ان يساعدني ابدا في حياته بحجه ان اظل بجوار والدي.

وقد ساعدك الان علي تحقيق الحلم بموته……-

اسف يا استاذ محمد ليس عندي وقت اضيعه فانا يجب ان الحق بالطائره التي سوف تغادر الان الي شيكاغوا……-

وتركني ومضي مسرعا.

ناديته……..خالد وماذا عن البنات والسيده التي تنتظرنا غدا ؟ فاجاب دون ان يلتفت الي………سوف اتصل بها واشرح لها الموقف..-

ولكن عندي بعض الاشياء التي تخص منتصر……اخوك

فالتفت لي قائلا…… بعدين بعدين.. وتركني ومضي وانا واقف مندهش تدور في ذهني الاف الافكار وعلي لساني كل السخطات واللعنات التي في الدنيا…. ومضي خالد الي طريقه المجهول وكانه التاريخ يعيد نفسه.

انا الان عائدا من المطار جون كنيدي الي بروكلين وعلي الكرسي المجاور لي البوم منتصر الابيض ومصحف والده القديم  والايقاع ما يزل ثقيلا والثلج يتساقط مره اخري وصوره منتصر لاتكاد تفارق عيني.