في قصيدة ” حكايات بتموت ”  للشاعر / أحمد السيد علي
 
بقلم / أحمد حنفي
 
( 1 ) القصيدة :
 
” حكايات بتموت “
 
حكاية
أنا راجع
و هعدي بحور الرمله ..،
و اعود
لا جيوش النعمان غلبتني
و لا حطم إيدي في قيود
أنا راجع
و معايا الضحكة ..
و الحلم
إنِّي اضمِّك ليا
أنا راجع
و معايا المهر
و قوافل م النوق الحمر
أنا شايف
على مرمى العين
الناس في مدينتي
احتضار
دبلانة يا ضحكة ورديه
عطشانة يا أحلامي الجايه
مش تلقي نهاية ترضيكي
و نهايتي مش زي ما هي
شهقة
شوف
مكتوب لي اني اوصل لمدينتي
و أقدم لعروستي المهر
مكتوب لي
أفضل وياها
و أكمل وياها العمر
مكتوب إن حكايتي معاها
تتسطر من عصر لعصر
صوتي اتنبح
بس الأكيد هافضل شبح
ملهوش وجود
وقت امتزاج ..
لون الجِمال ..
لون السواد ..
لون القبور
( 2 ) حول النص :
 
لواحدٍ من جيل الشباب صدر ديوان ” الواد في سنِّي ” للشاعر / أحمد السيد على و الذي اعتبر بمثابة التدشين الرسمي له كأحد أبرز شعراء العامية الشباب بالإسكندرية ، و النص الذي بين أيدينا اليوم له موقع الصدراة في المطبوع و قد قسمه الشاعر لثلاثة عناوين داخلية هى : ( حكاية – شهقة – احتضار ) ..
المقطع الأول: حكاية
 
يبدأ الشاعر نصه متناصاً مع قصة الشاعر الجاهلي المعروف “عنترة بن شداد العبسي” حين شرع في رحلته المشهورة لبلاد الملك “النعمان بن المنذر” ــ الحيرة ــ طلباً للنوق الحمر مهر ابنة عمه عبلة ، غير أنَّ تلك الرحلة لم تشقِ شاعرنا كما فعلت مع “عنترة” ، يقول:
” و هعدي بحور الرمله ..،
و اعود
لا جيوش النعمان غلبتني
و لا حطم إيدي في قيود”
ربما لجأ الشاعر إلى ذلك التمييز بين ذاته و “عنترة” لاختلاف المقدمات في القصتين و بالتالي ما يستتبعه من اختلاف النتائج ، كذا اختلاف الظرف السسيولوجي بينهما حيث ينتمي شاعرنا إلى المدينة ، يقول:
” أنا شايف
على مرمى العين
الناس في مدينتي”
لذا تحولت كل العقبات التي صادفت “عنترة” إلى رموز أكثر من كونها عقباتٍ حقيقيةً ؛ فبحر الرمال الذي عبرته الذات غير تلك التي أوقعت “عنترة” ، و دوال التعطل المرتبطة “بنعمان” “عنترة” غير دوال “نعمان” الذات.
ذلك التمييز بين الذات الشاعرة و “عنترة” و الذي لازمه تمييزاً بين دوال تعطل عبرتها الذات دون مواجهةٍ و نظيرتها التي عرقلت “عنترة” حيناً ، يشي بتمييزٍ آخر بين ذاتٍ فارسةٍ تخطَّت عقباتها و أخرى متوهمةٍ حالمةٍ مثَّلها الشاعر.
غير أن الشاعر وقع في معضلة الإفراط في التعبير عن المعنى حين قال:
” أنا راجع
و معايا المهر
و قوافل م النوق الحمر”
و ما المهر بقصة “عنترة” سوى النوق الحمر ، فضلاً عن حرف العطف الذي سبق “قوافل” و الذي جعلها جزءً من المهر لا كله.

 

و الواضح أن غنائيته و احتفاءه بالقافية هما ما أوقعاه في ذلك الإفراط و الذي عدَّه “بودلير” أحد سمات الشعر الزائف.

المقطع الثاني: احتضار
 
يأتي ذلك المقطع مغايراً في بنيته الشكلية ؛ حيث تحول الشاعر من قصيدة التفعيلة (كشكل/كقالب) إلى الرباعية ، و هو شكلٌ غنائيٌّ ذو إيقاعٍ زاعقٍ عزَّز من ذلك تفعيلة الخبب و اعتماده على نظام تقفيةٍ اُصطُلِحَ على تسميته بالعرجة (أ أ ب أ).
و قد تجاوز الشاعر مشهداً دراماتيكياً في قصة “عنترة” و لم يذكره ؛ حين جاء مظفراً بمهر “عبلة” ليجدها و الحيَّ في حفل عرسها ، ذلك التجاوز الذي أضاف للنص حيويةً و تدفقاً سيما و أن ذلك (المقطع / الرباعية) مثَّل أثر ذلك المشهد المحذوف على الذات الشاعرة من احتضارٍ للحلم و الضحكة الذين عاد بهما ، و يكون المقطع بذلك بمثابة نعيٍ للحظِّ العثر و خيبةِ الأملِ مقترباً بذلك – و إلى حدٍّ بعيدٍ – بفن “العدُّودة” أحد أشكال الأدب الشعبي اللهجي بصعيد مصر.
و قد تمثَّل ذلك الاحتضار في دالتي “دبلانة” للضحكة ، و “عطشانة” للأحلام. لكن هل يكون الموت تحققاً لذلك الاحتضار ؟
المقطع الثالث: شهقة
 
يفاجئنا الشاعر في بداية ذلك المقطع بالتفاتٍ لضمير المخاطب ؛ حيث كان الحديث موجهاً في بداية المقطع الأول (لحبيبته / ضمير المخاطبة) ، فكيف أدَّى ذلك الالتفات دوره في نقل المعنى و تحوله ؟
بالفعل أصبح ذلك الالتفات دالاً على انحسارِ حبيبته من الحدث فجأة ، ذلك الانحسار قد أحالها من أنثى حقيقية تتمتع بكل ما للإنسان من سمت و صفات و تتصف بكل ما (للمحبوبة / الملهمة) من وشائج و علاقات تجذبها لواقعٍ تحياه الذات الشاعرة فعلاً ، إلى رمزٍ للوصلِ و النشوةِ غير المحققين بل لا يرجى تحققهما ؛ ذلك كونها فكرةً تتموقع في ذهن الشاعر و بالتالي انتفاء وجود تلك المحبوبة بالأساس ؛ مما فسَّر لنا كيف أنَّ دوال التعطُّلِ التي صاحبت قصة “عنترة” لم تقم بنفسِ الدورِ مع الذات ، فالذاتُ لم تمر بها أصلاً في واقعها حتى توهمت سهولة تجاوزها إذا ما صادفَ و مرَّت بها.
ذلك التحول من الأنثى الحقيقية إلى (الرمز / الفكرة التي لا يرجى تحققها / الوهم) قد جعل من الالتفات دالةً سيميوطيقيةً لها دورها الرئيس في نقل المعنى ، و هو الموضوع الذي يستحق الوقوف أمامه و دراسته في ضوء الدرس السيميوطيقي ، و لعلي أتوفر عليه قريباً إن شاء الله.
و قد تحقق ذلك الالتفات منذ بداية المقطع حين قال:
“شوف”
تلك الكلمة التي لا تخلو من معاني القوَّةِ و الإصرارِ على تحقيق ما يتوهم أنَّه مكتوبٌ في طالعه .. يقول:
“شوف
مكتوب لي اني اوصل لمدينتي
و أقدم لعروستي المهر
مكتوب لي
أفضل وياها
و أكمل وياها العمر
مكتوب إن حكايتي معاها
تتسطر من عصر لعصر”
إنها رغبة الذات التي تتطلع للظفر بحلمها (العروس / الحبيبة / السعادة / الخلود) .. إنه باختصارٍ : حلمٌ لتحقيق الحلم !
إنَّ هذا التحول الفاضح للذات المدَّعية و الكاشف لعجزها و سلبيتها لم يتوقف عند حدِّ المكاشفة فحسب بل تخطَّاه إلى حدِّ الاعترافِ بالعجز الكامل عن تحقيق ذلك (الحلم / الوهم) ، يقول:
“صوتي اتنبح
بس الأكيد هافضل شبح
ملهوش وجود
وقت امتزاج ..
لون الجِمال ..
لون السواد ..
لون القبور”
و هنا كانت “الشهقة” .. شهقة الموتِ .. موت الحلمِ .. وأد الحكاية قبل أن تبدأ ؛ فالذات اكتشفت بعد إفاقتها من سكرة ذاك (الحلم / الوهم) أنها كانت و ستظل شبحاً .. لا وجود لها في العالم المادي ، ذلك (اللاوجود) لا يعني انتفاءً تاماً للذاتِ بقدر ما يعني انحسارها و تعطلها و هو المبرر للانحسار المفاجئ للمحبوبة في بداية المقطع.
و قد اشترط الشاعر وقتاً لذلك الانتفاء و الانحسار و التعطل لحظة أن يمتزج لون (الجمال / الحلم) بلون (السواد / الحداد على موت الحلم) بلون (القبور / وأد الفكرة تماماً) ؛ ربما كان لذلك التتابع الكرونولوجي أثره الدال في مراحل اكتشاف الذات لحقيقتها بدءً من تحققها وصولاً لانتفائها.
صاحبت تلك “الشهقة” انتقالاً من الخبب إلى الرجز ، الأمر الذي خفَّف من حِدَّةِ الإيقاعِ و سرعته ، ربما قصد الشاعر بذلك أن ينقل لنا حالةً من الهدوء النسبي الملائم لحالة الإرهاقِ المصاحب لقوله (صوتي اتنبح) ، و كذا التي تلائم – نوعاً – الإحباط الناتج عن اعتراف الذات بعجزها و تعطلها كتجليين لانتفائها.
و لم يتخلص الشاعر من معضلة الإفراط في التعبير عن المعنى في موضع آخر بذلك المقطع في قوله: (ملهوش وجود) ، ربما كان ذلك الإفراط ظاهرةً مصاحبةً لمعظم الشعراء في ديوانهم الأول و على شاعرنا أن يتخلص منها في كتاباته القادمة.
إجمالاً نستطيع القول أن “أحمد السيد علي” يقدم شعريةً حقيقيةً ترتكزُ على رؤيةٍ خاصةٍ و وعيٍ بأدواته التي لو أجاد استخدامها بطاقتها القصوى لأصبح من متصدري المشهد الشعري السكندري لقصيدة العامية قريباً.
أحمد حنفي – الإسكندرية
6 مايو 2014
7 من رجب 1435