زمن الماضي البسيط واختزال العالم

العبور نحو الحقيقة

قراءة في رواية (ليالي دبي) للكاتب الكبير/ السيد حافظ

(شاي بالياسمين)

 

بقلم/ أحمد حنفي

بدايةً .. فنحنُ أمام نص روائي يؤسس وعياً جمالياً مغايراً من حيث الشكل وطرق الأداء، وهو نص يؤطِّر بذلك الوعي المغاير فكرة الغريب ومفهوم الاغتراب المكاني والنفسي والاجتماعي.

بنية الرواية لا تتَّصف بالمرونة والانسيابية، بل نجده نصاً مرهقاً يتكون من مجموعة بنى مركبة يتعدَّد فيها الرواة وتتنوَّع فيها الأماكن وتختلفُ فيها الحقب الزمنية وتتمايزُ فيها أشكال السرد.

بالرواية حكايتان مختلفتان من حيث الانتماء الزمني؛ إذ لكلٍّ منها زمنه الخاص:

الحكاية الأولى، حكاية (فتحي رضوان خليل) الكاتب المثقف الذي واجه بمصرَ إحباطاتٍ دفعته للسفر إلى (دبي) مصطحباً زوجته معه، فتحي رضوان العاشق لــ (سهر) تلك الفتاة الحلم والتي تورَّط معها في علاقة غير شرعية.
الحكاية في مجملها تسلط الضوء على حياة مثقف وكاتب معاصر ناقد لوطنه ومجتمعه من أجل غدٍ مختلف ومغاير، وربما كان هناك تماهياً بين شخصيتي فتحي رضوان والمؤلف وهو الأمر الذي نجد له قرائن في أصداء السيرة الذاتية التي بثها كاتبنا الكبير/ السيد حافظ على مدار الرواية.

الحكاية الثانية، حكاية (كاظم) وقصة عشقه لــ (سهر) والتي تدور أحداثها بالشام وتشتبك معها قصة (الحاكم بأمر الله والجارية شمس) حيث تقوم شمس بدور المعادل الموضوعي لسهر.

الحكايتان لا تتقاطعان في الجزء الأول – شاي بالياسمين – ولكنها متوازيتان، كما أنَّ بنية النصِّ بها مقاطع تحت مُسمَّى (تنهيدة)، تلك التنهيدات كانت تسبق قصة سهر، تتناول أحداث الفتنة الكبرى زمن خلافة الإمام”علي بن أبي طالب”.

ومقاطع أخرى تحت عنوان (همسة)، تلك الهمسات كانت تسبق قصة فتحي رضوان وتحكي عن الصراع بين الحكم والعقيدة متمثلاً في قصة إخناتون.

كما كان لأدب السيرة الذاتية دوره الحاشد كفواصل بين الحين والآخر فيما جاء تحت عنوان (شخصيات في سيرة مسيرة ابن حافظ فيما حدث وما جرى في بلاد المسخرة)، وهي (نصوص / متون) تعتمد على مبدإ الكشف والفضح لمواقف جمعت الكاتب مع بعض رموز وأعلام الفن والثقافة والسياسة بمصر والوطن العربي سواء كانت تلك المواقف بالسلب أم الإيجاب.

وكل ما سبق يضعنا أمام نصٍّ يُكرِّس لمفهوم جمالي جديد لا يمنح مبررات فنية لذلك الشكل بقدر ما يثير داخل المتلقي عدة أسئلة، أهمها:

كيف يحتفظ الكاتب بحريته والتي هي أساس العملية الإبداعية وفي الوقت نفسه ينصاع لقوالب وقيود يفرضها الشكل الروائي التقليدي؟ أي كيف يكون حراً وأسيراً بآن؟

هذان السؤالان هما ما أجاب عنهما السيد حافظ بذلك التمرد في بنية وشكل روايته (ليالي دبي)، ذلك التمرد الذي كان حلقة في سلسلة تمرد الرواية الجديدة والتي صاحبها تغيُّر التقاليد الفنية المعتادة للرواية الواقعية وتطور التقنيات السردية بما يتلائم والأنماط الجديدة والرؤى التي تطرحها.

والحقيقة أنَّ رواية (ليالي دبي) لا تنتمي لتيار روائي بعينه؛ فإذا ما نظرنا إلى قصة (الحاكم بأمر الله وشمس) ورؤية الكاتب لشخصية (الحاكم) باعتباره رمزاً للعدل والحضارة والرُّقي كما أننا لو نظرنا لتنهيداته وهمساته والتي جسدت الصراع الديني السياسي فهي رواية أفادت من الرواية التاريخية من جهة كإفادتها من ظاهرة الإسقاط السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، كما أنَّنا لو نظرنا لقصة (فتحي رضوان خليل) باعتباره المثقف الذي يقف من الأشياء على مسافة تفرضها رؤيته ووعيه بالواقع فإنَّنا نستطيع القول أن تلك الرواية تنتمي إلى روايات تيار الوعي، وهي تلك التي ترى أنَّ الحقيقة لا تكمن في الواقع المعاش بل هي التي تكمن في الوعي الإنساني بهذا الواقع؛ فشخصية (فتحي رضوان) ما كانت تكتسب تلك الأهمية وذلك المعادل الموضوعي للكاتب نفسه إلا بامتلاكها وعياً بواقعها ومشكلات وطنها كذا مشكلاتها النفسية والعاطفية.

ومن سمات روايات تيار الوعي انفراط عِقد الحبكة الدرامية المحكمة واختلال توازن الزمان وتسلسله ليصبح زمناً نسبياً وتصبح الأحداث تروى من خلال تقطيرها في وعي الراوي أو إحدى الشخصيات. [1]

وجدير بنا أن نقف أمام الزمن الخاص الذي أنشأه الكاتب لروايته، فهناك تداخلات زمنية بين قصة الحاكم وشمس من جهة، وكاظم وسهر من جهة، وفتحي رضوان وعشقه من جهة ثالثة؛ ليصبح فعل الكتابة تقاطع مع الواقع وانتقال من حدث ماضوي لحدث ماضوي آخر كذلك الانتقال بين الصراع الديني السياسي أيام الفراعنة وما شابهه في أحداث الفتنة الكبرى، أيضاً قصة الحاكم وشمس وما ناظرها من قصة سهر مع كاظم وفتحي رضوان، ذلك التقاطع بين الواقع ووعي الكاتب في فعل الكتابة صاحبه تقاطعاً بين فعل القراءة – الذي يقوم فيه المتلقي بإعادة إنتاج المعنى – وفعل الكتابة ذاته.

وبالتالي يطرح السؤال نفسه، لماذا عمد الكاتب إلى إعادة طرح رؤيته في الحكايتين، وإعادة طرح موقفه في العلاقة بين الدين والسياسة في التنهيدات والهمسات، وإعادة طرح محنة اغتراب الأديب في قصة فتحي رضوان ولقطات السيرة الذاتية التي نثرها على مدار النص؟ وبما أن كل كاتب يهدف إلى وصول رؤيته عموماً للمتلقي فلمَ كل هذا التشظي الذي حفل به نص (ليالي دبي)؟

أعتقد أن الإجابة على تلك التساؤلات مرتبطة بمعرفة الزمن الخاص للرواية، ومن الجيد أن ننطلق من عند (رولان بارت) حين تحدَّث عن زمن الماضي البسيط باعتباره “حجر الزاوية في السرد، هو الإشارة الدائمة إلى الفن …. ولم تعد مهمته التعبير عن الزمن؛ بل إنَّ دوره إيصال الحقيقة إلى نقطةٍ ما وأن ينتزع من الأزمان المعيشة والمتعددة والمتراكبة حدثاً لفظياً صرفاً يجتثُّ التجربة الوجودية من جذورها” [2]

إنَّ مقولة التاريخ يعيد نفسه تؤكد على فكرة زمن الماضي البسيط، تلك الأحداث المتكررة وذاك الهم المصري والعربي الذي نفشل في تغييره رغم أنه يتكرر في مشهد عبثي من آلاف السنين.

إنَّ الكاتب الكبير/ السيد حافظ استطاع أن يجعل من الزمن الماضي زمناً مصطنعاً يفترض وجود عالم مختزل إلى خطوط دلالية مصاغة بماضوية يختبئ هو خلفها حيث يستدرج القارئ لتلك الحقيقة المتشظية عبر الزمن.

ذلك التشظي الزمني صاحبه تشظياً مكانياً وآخر شكلياً حيث يختلط السرد بالمسرح بالسيرة الذاتية بالسيناريو بالمقال الصحفي بالهوامش بالفواصل.

وبالتالي يمكننا أيضاً أن نعتبر رواية (ليالي دبي) من الروايات المنتمية لتلك التي تتكئ على جماليات التشظي والتفكك، وهي جماليات تعتمد على التجاور والتوازي والتزامن.

فدلالة حكاية (فتحي رضوان) تنبع أهميتها من مجاورتها لحكاية (كاظم وسهر)، كما أن دلالة حكاية (كاظم وسهر) تبرز هي الأخرى من خلال توازيها مع قصة (الحاكم بأمر الله وشمس).

وكل قصة ليست سبباً في وجود الأخرى كما أنها ليست نتيجة لها، فهي أحداث مفككة في ظاهرها لا يربطها مبدأ العلاقة السببية. ذلك التشظي وذلك التفكك إنما قام في رأيي مقام تقنية كسر حاجز الإيهام لدى المتلقي/ كسر الحائط الرابع، وهي تقنية مسرحية بالأساس.

إنه لا يريد للمتلقي أن يقع تحت سُلطة السرد وإنما يريد له أن يشتبك بوعيه مع النص والرؤيا، إنه لا يمارس التطهير، بل يضع المتلقي أمام الأزمة ويتركه ليبحث لها عن حل.

لنخلص إلى أن تلك الرواية تنتمي للروايات الجديدة التي أعقبت الرواية الواقعية من حيث أنها:

  • تمردت على التقاليد الراسخة للرواية الواقعية.
  • تخلت عن الحبكة الفنية المحكمة واستبدلتها بالتصميم الفني الذي يشبه التصميم في الفنون التشكيلية.
  • الحرية في القفز بين الأنواع الفنية وغير الفنية والإفادة من تقنياتها وبخاصة المسرح والسينما والسيرة الذاتية والكتابة الصحفية.

ومن الجائز لنا القول أن تلك المعايير والمفاهيم الأدبية الجديدة التي يكرسها نص (ليالي دبي) تفرض علينا الخضوع لمنطق ذلك الشكل الروائي للتعامل مع معطياته التي يمنحها لا مع القوالب الجاهزة التي تُفرض عليه، فلا يتعيَّن أبداً هنا البحث عن التسلسل والسببية في بناء الحدث كما لا يجب الحديث عن الشخصيات من حيث أبعادها البيئية وبنائها وتماسكها من عدمه بقدر النظر إلى اعتبارها أيقونات أو علامات ذات دلالات أعمق، وذلك لأننا بإزاء شكل جديد، متمرد، يفرض جمالياته والتي لن أكون مجاوزاً إن اعتبرت التمرد الفني قيمة بحد ذاته يحاول النص تجسيدها.

 

الهوامش:

[1] راجع: قراءة النص – تأصيل نظري وقراءات تطبيقية، د. عبد الرحيم الكردي ص 207 وما بعدها

[2] راجع: الكتابة في درجة الصفر، رولان بارت، ترجمة: د. محمد نديم خشفة، ص40 وما بعدها