انطلقت الأصوات فى مشهد مهيب .. أشخاص لم أكن أعلم بعد أنهم على قيد الحياة .. تتلاقي الوجوه من كل حدب وصوب .. ينتظرون وصول الأمانة الآتية من المدينة .. الجميع حول المسجد يستقبلون بأعينهم طريق السيارات .. تتجمع النسوة حولها متشحات بالسواد .. دموع تنهمر على خدود قلة من الجالسات .. رغم مشقة السفر لبعضهن .. والباقيات يعتصرن عيونَهنَّ علها تلقى إليهم بثمرها .. تأتى إحداهن إلى سيدة البيت .. هل أذهب لأشترى اللحم ؟ .. تجيبها بصوت مختنق .. أظن ( عبده ) سيذبح اليوم .. يا سيدتى لقد سألت عليه ، فقالوا لقد سافر لأمر جلل .. تنظر السيدة فى الأرض نظرة طويلة .. اشتريه .. فتذهب كأنها انتصرت لرأيها ..
كلٌ يرفع هاتفه المحمول على أذنه .. ثرثرات لا تكاد تسمع منها شيئا .. كل يحاول أن يحصل على السبق الصحافي بين أهل القرية .. تنهمر الاتصالات على السيارات القادمة مع الموكب .. لم يستطع أحدا الوصول إلى إجابة .. يعود الجميع إلى أقفاص الانتظار .. تتناثر على الألسنة العديد من الأسئلة والأسباب التى جعلته يلقى نفسه من الطابق العاشر رغم أن زوجته تركته من أيام وجاءت إلى أمه خالتها .. هل أولاده المرضى سببٌ فى ذلك؟ وغيرها كثير من الأسئلة ، التى لن تغير من الواقع شيئاً ..
النساء يعملن على إعادة ترتيب أثاث البيت .. تفريغ مساحة لا بأس بها فى صحن المنزل .. غرف النوم تم فتحها لتكون متسعا هى الأخري .. غرفة واحدة لم يدخلها أحد .. بها بعض الأثاث المتراكم .. خزين البيت .. بها سرير قديم تم فرشه بأناقة .. البطانية غير المرتبة والدفء الذي يعلوه يدل على أنه حديث الاستخدام .. حقيبة حريمى شامخة على جانب السرير بألوانها المتعددة .. الثرثرات فى ازدياد مستمر أمام تلك الغرفة التى تجلس أمامها سيدة البيت ..
القرآن الكريم يعلو صوته فى المسجد .. اقتربت الأمانة من الوصول .. يقف الجميع منتظرين اللحظة الحاسمة .. يذهبون إلى سيدة البيت يخبرونها، باقتراب وصول جثة ابنها الأكبر إلى المسجد .. تهطل الدموع وسط صراخ مكتوم .. تتذكر كيف كان يعتصر وسط مشكلاته مع وزجته .. وكيف كانت شكواه الدائمة من أنها جعلت الموت سبيلا له للراحة من مشاكله معها .. خاصة مع حبه الشديد لأولاده وخوفه عليهم ..

تأتى الفتاة باللحم .. تطلب السيدة من ابنها الأوسط أن يأخذها منها ويضعها فى تلك الغرفة المغلقة .. يتخطى النساء .. يدخل الغرفة .. ما هذه الكومة فوق السرير! .. بين الوسادتين جهاز تسجيل .. شريط التسجيل الذي مازال يعمل لم يكن بالبيت ولم يكن ذوق أصحابه .. غناء شعبي ” هركب الحنطور” ..
.. يضع الابن اللحم .. يغلق جهاز التسجيل .. يخرج مندهشا إلى أمه .. من كانت بالغرفة من قبل .. تنظر أمه إلى زوجة ابنها الأكبر .. تسألها: هل حقيبتك بالغرفة! .. تنظر الزوجة فى الأرض .. تأتى ورقة من عبده أنه أرسل اللحم .. ترمُقُ الأمُّ زوجة ابنها قائلة: ألم أقل إن عبده سيذبح اليوم .. ترتعد الزوجة خوفا من نظرة السيدة .. ميكروفون المسجد يقيم صلاة الجنازة.