نادين أيمن قصة زجاجة فارغةقصة زجاجة فارغة

1- أنصهر تماما، وتنساب ذراتي بمرونة.. لم أتعرّضْ لأيِّ نوع من أنواع المذيبات، أو ضوء، أو حرارة, ولكن ذرَّاتي تتباعد، وكأنني ارتكبتُ ذنبا، كي أستيقظ و لا أستطيع أن أتعرَّف على هويتي في المرآة. الناس تنظر لي في بلاهة، وأنا أتدحرج على الأسفلت في نهار يناير، وقدماي تتحركان بميوعة،  ورأسي يميل إلى الأمام وإلى الخلف، وعنقي يقصر ويستطيل. أذهب إلى المتجر؛ لأبتاع بعضَ طعام، علّني أتخلص من فقدان الإتزان غير المبرَّر في ذلك الصباح المثلج. ينظر لي البائع في دهاء قائلا: عبِّئي نفسك في زجاجة. لم أفهم كلامه، ولكنه منحني زجاجة بلاستيكية صغيرة. نظرتُ له في إعياء قائلة: إن الزجاجة صغيرةٌ جدا, ولن تروي ظمأي، وإنني متعبة. قال لي في إصرار مبتسما، ورافعا أحد حاجبيه، وهو يشير إلى قِصَر قامتي: عبئي نفسك، واتَّخذي شكلا محددا، واحرصي على تكوينك…

ناولتُه النقود، وأمسكتُ بالزجاجة، وأصابعي تكوَّن عليها مادةٌ لَزِجَة، متَّخِذة لون بشرتي القمحي.

نادين أيمن تكتب : زجاجة فارغة

نادين أيمن

2- أمثُل في مقابلة المرآة مرة أخرى، وقد تهدَّلتْ ملامحي، وزاغت عيناي، وكأن طفلًا أهوجَ لا يجيد الرسم قد خطَّني في الفراغ هيكلا ثلاثي الأبعاد. أحاول أن أتراقص على نغمات مضطربة، يصنعها أنينٌ داخلي، ولكنني أفشل تماما، وأذوب على أرضية الحجرة مكوِّنةً بحيرة جيلاتينية صغيرة.

3- الوقت قد مَرَّ، وبعض نسمات شمالية تداعِب وجهي الملتصِق بالسيراميك؛ أتماسك، ويتصلَّب هيكلي من جديد.  أشعر – إن جاز لي الشعور – أن بعض أشياء قد فُقدت منِّي، وأن الأرض تميد بي, تلك الأرض الملطَّخة ببعضي.

أخشى أن أُفقَد في إحدى الليالي؛ وأضطَّر أن أنفِّذ كلام البائع، وأترك أجزائي الذائبة تمُرُّ من خلال فوهة الزجاجة البلاستيكية، فأرتجُّ داخلها صانعة موجات هادئة بعض الشيء، قائلة بصوت مرتجِف: أنا عصير مرير؛ لا تشربوني.

4- كل ما أخشاه أن يأتي، ويشربني تاركا بعضي الممزَّق داخل الزجاجة, فهو بالضرورة سيكون فريسة فضوله، ولن يفكِّر لحظة قبل أن يحتسي العصير الغريبَ. أنا لا أختنق داخل الزجاجة، بل أريد أن أحافظ على تكويني. أشعر بالمتعة بينما تلامس ذرَّاتي ذرَّاتِ الجدار البلاستيكي، ويتجاذبان في حميمية. هذا التآلف جعلني أحبُّ هيكلي الجديدَ، وتمنَّيتُ ألا تخذلني الزجاجة يومًا؛ فأنساب وأضيع.. تمنَّيتُ لو أغلقتْ فمَها، وكفَّتْ عن الثرثرة إلى الفراغ الخارجي، وألاَّ تنفعل؛ فتنقلب بي.. تمنَّيتُ لو تأخذني –  صيفا – في نزهة إلى الثلّاجة، حتى لا أتبخَّر؛ وتسافر أجزائي في أنحاء الكون. وقتئذ – إن شاءت وغادرتني – سنفترق فراقا محمودا، وسأذكرها بكل خير.

5- ذرَّاتي تلامس جدارًا عرفتُه جيدا.. أشق طريقي عنوة داخل القصبة الهوائية، غير عابئة بشهيقه وزفيره المتلاحقَين.. أقاوم انتفاضاتٍ هائجةً.. أستقر هناك، بعد أن صارت لي جمجمة وأطراف وصدر ومؤخرة.

 

اقرأ أيضًا قصة نادين أيمن : شرود