دراسة نقدية
بقلم /محمد السيد إبراهيم
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
الشاعرُ الشاعرُ الحَقُّ هو من يتجاوز مقامَ النقل المباشر الساذج للأشياء في عالمنا الخارجي ، ويتجاوز مرحلة تركيبها إلى مقام الرؤية الشعرية والرؤيا ، لذا عندما نقرأ قصيدة (تواضعى سموَّ البرنسيس) نجد أنها قصيدةٌ كتبها الشاعرُ بروح صوفية غير مقيمة ، تسافر عبر الأشياء نحو قلبِ العالم ، روحٍ تُوحِّدُ بين الحلم والواقع ، تؤلف بين الأطراف المتناقضة ، لا تعني بالشائع بل بما ليس نعرفه ، روح صوفية تغييرية ؛ فهي تقدم العالم في صورة جديدة ومختلفة عبر تجربتها الشعرية ، حيث تتوزع القصيدة إلى متواليات : متوالية البوح الذاتي من خلال توظيف روح الطبيعة من أنهار ونجوم وشموس ، ثم متوالية الإنكار ثم متوالية مقامات المحبين ، وتجربة التنائي .. ونرى أنها تنهض على التكرار : ويظهر من خلال تكرار حرف النفي (لا) سبع مرات متتابعة في قوله :
وإذا الفجرُ صار بعيدا
والصبح هام جهيدا
والليل هدهد للدجى جِيدا
فلا أنتِ أنتِ !!
ولا الدموعُ دموعُ
ولا هذى العيون عيونُ
ولا أنا أنا أو أنا !!
ولا هذا الصباحُ صباحُ
ولا الذى بالقلب بالقلبِ

والتكرار هنا يؤدي وظائف دلالية وتداولية ، ويحمل معاني إدراكية تجذب وتثير وتوجه أفق انتظار القارئ ، تتضافر هذه الجمل المنفية جميعها وتتعالق ، وتتعانق مما يؤدي إلى رباط وثيق بين أجزائها ، ومَرَدَّ ذلك أن نواتها واحدة ، بالرغم من عدم الإعلان عنها بشكل مباشر وهي الإنكار : إنكارٌ للذات وللحبيبة وللطبيعة .. ولعل ذلك يستدعي عندي بيتَ أبي تمام :
لا أنت أنت ولا الديار ديار . . خَفَّ الهوى وتولت الأوطار
وكذا ما جاء في قصيدة لوركا (أغنية جوالة في أثناء النوم) :
لو كان الأمر بيدي يا فتى
لأتممنا هذه الصفقة
ولكني لم أعد أنا
وبيتي لم يعد بيتي
.. .. .. ..
ونرى متوالية البوح الذاتي من خلال توظيف روح الطبيعة في قصيدة شاعرنا الجميل (رحاب عابدين) متجسدة في قوله : وحين تَحادَثَ القلبُ
واشتهى بالفردوس مملكتهْ
وتعطر الضىُّ بالإشراقِ وانطلقا
لامه القلبُ الحنونُ وانحدرت بالرؤى فِكَرُ
فكأنما لسرابٍ كانت حكاياهُ
وكأنما للمواجد أضحت دعاواهُ
وللخريف على الأصداف متكأٌ من الغيم أشقاهُ
فالندى لم يعد من برَدَى
ولا صارت الأمواه نيلاً من سجاياهُ
ولا دجلةُ فى عشق الفرات سرت بالهوى سراياهُ
فالكونُ كلّاً غائبٌ وابتساماتُ الطيورِ دموعُ
والبوحُ على أرَجِ النجوم شرارٌ تحدو وتضطرم
.. .. .. .. .. ..
ثم متوالية مقامات المحبين ، وتجربة التنائي تتجلى في قوله :
وتثرثرين أثرثر كالعُبابِ
بالذى قد كان منى
والذى قد كان منك
ونمضى والحديثُ اصطخابُ
وأحبك كحريقٍ من الطهرِ
وتحبين روحكِ تمرقين بكل بابِ
وتتلين أقساماً صادقاتٍ
أنك أبداً – وربِّكِ – لا تكذبينَ
وأحب صدقكِ لكن لست أعرفه
وأهوى كِذابَك والعشقُ مكذابُ
وتقولين بأنى أجرح الوردَ
وأجرح الخَلقَ وأجرح الأطهارَ
وهذى الخلقُ أعداءُ
وأقول كلا ، والظالمون كثارٌ
وما قول الحقيقة للظالمين سوى جهادِ
وناشدُ الحق إذا فرّط لا تسل عن نَجاواه
.. .. .. .. ..
في الختام أقول بأن التجربة الشعرية عند شاعرنا القدير (رحاب عابدين) عبارة عن حالة نفسية ووجدانية تستغرق كيان الشاعر كله ، وهو حين ينغمس فيها لا يستطيع إلا أن يفعل ما تمليه عليه .. والواقع أنها تعصره عصرا ، فيبدأ فى الصراخ ، لكن صراخه لا يسمعه أحد سواه ، وهو صراخ مكتوم يصاحبه البحث عن الكلمات التى يتوالى بعضها إلى جوار بعض .. القصيدة عند أخي الشاعر الحبيب (رحاب عابدين) هي رحلة حياة كاملة .