10168134_494928743945940_6740067187129603692_nيارا المصري

نقلا عن أخبار الأدب

يانغ‮ ‬هان قوانغ ترجمة‮:‬‮ ‬يارا المصرى‮ 

جدي مُفكِّر‮ ‬يقدُّره الناس جميعا،‮ ‬وكنت أحب أن أقرأ أعماله في صغري‮. ‬وعندما تخرجت من المدرسة الثانوية،‮ ‬تقدمت علي الفور لامتحانات القبول في الكليات الأدبية،‮ ‬حتي أصبح مثل جدي في المستقبل،‮ ‬مُفكِّراً‮. ‬إلا أن جدي قطَّب حاجبيه قائلاً‮: “‬علامَ‮ ‬تريد أن تصبح مُفكِّراً؟ فلتتقدم لامتحانات الكليات العلمية،‮ ‬أدرس شيئاً‮ ‬واقعياً‮ ‬بعض الشيء‮”.‬
لم أستمع إلي نصيحة جدي،‮ ‬وفي النهاية اتخذت مقعداً‮ ‬لي في قاعة محاضرات الجامعة،‮ ‬ودرست الفلسفة‮. ‬وبدأت في قراءة المؤلفات القديمة والحديثة،‮ ‬الصينية والأجنبية‮. ‬وعندما تعمقت في القراءة،‮ ‬اكتشفت بألم‮: ‬أن جدي شخص بلا أي فِكر،‮ ‬وأن مؤلفاته جميعها،‮ ‬ما هي إلا إعادة لأفكار الآخرين ولكن بأسلوبه‮. ‬
إن أهم جزء في السنة الرابعة من الجامعة هي كتابة بحث التخرج،‮ ‬ففكرت بالكتابة عن جدي وكأن قوة خفية دفعتني لذلك،‮ ‬وأسميت البحث‮ (‬مُفكِّر بلا فِكر‮). ‬عندما نظرت إلي ذلك العنوان،‮ ‬أصبت أنا نفسي بالذعر‮. ‬أخذت خطة البحث وأعطيتها للأستاذ المشرف ليقرأها‮. ‬لم‮ ‬يكمل الأستاذ القراءة حتي قفز قائلاً‮: “‬هل جُننت‮! ‬إذا تجرأت وقدّمت هذا البحث،‮ ‬فلن أعترف بك أيها الطالب‮”.    ‬
إنني شخص له عقل،‮ ‬كيف‮ ‬يمكنكَ‮ ‬أن تُتاجر فقط بأفكار الأخرين ولا‮ ‬يحق لك أن تُعبِّر عن وجهة نظرك؟ أكملت كتابة بحت‮ (‬مُفكِّر بلا فِكر‮) ‬سراً‮. ‬وبعد انتهائي منه،‮ ‬اخترت لنفسي اسم‮ (‬شياو دينغ‮)‬،‮ ‬وأرسلته إلي بضعة مجلات‮. ‬حتي وافقت المجلة الثامنة علي نشره‮. ‬وما أن نُشِر المقال،‮ ‬حتي أثار ضجة في الحال،‮ ‬دعمني بعض الناس،‮ ‬ودافع الكثيرون عن جدي،‮ ‬وبدأت مناظرة بين الطرفين‮. ‬ومن الطبيعي أن أكون في المقدمة،‮ ‬وقد كانت هناك أوقات،‮ ‬كنت أكتب فيها مقالاً‮ ‬كل‮ ‬يوم لأشارك في ذلك الجدل‮. ‬كنت أعلم جدي جيداً،‮ ‬وكان كل مقال أكتبه‮ ‬يضرب موطن ضعف عنده،‮ ‬ويجعل المؤيدين له تثور ثائرتهم‮. ‬وما أن هدأ الجدل،‮ ‬حتي اتصل بي والدي،‮ ‬وقال إن جدي‮ ‬يود رؤيتي،‮ ‬وطلب مني العودة إلي المنزل علي الفور‮.‬
عُدتُ‮ ‬إلي المنزل مضطراً،‮ ‬وكان جدي في مكتبه،‮ ‬فقال،‮ “‬أيها الصديق شياو دينغ،‮ ‬تفضل بالدخول‮”.‬
دخلت مكتب جدي،‮ ‬وسألته بقلق شديد‮: “‬جدي،‮ ‬كيف علمت أنني هو شياو دينغ؟‮”‬
‮”‬إن هاتفي علي وشك الانفجار من كثرة المكالمات،‮ ‬لم‮ ‬يكن صعباً‮ ‬ألَّا أعرف‮!” ‬كان جدي‮ ‬يجلس علي كرسي من الطراز القديم،‮ ‬وقد نحف كثيراً،‮ ‬وتغضنت تجاعيد وجهه للغاية‮. ‬أما نظرته فكانت تختلف عن السابق أيضاً،‮ ‬وكأن مشعلين بقيا متقدين لمدة ثمانين عاماً‮ ‬أضحت شعلتهما تخمد شيئاً‮ ‬فشيئاً‮. ‬جدي الذي كان دائماً‮ ‬وأبداً‮ ‬قوياً،‮ ‬أصبح في لمح البصر ذلك العجوز المسكين‮. ‬وبدا واضحاً،‮ ‬أن الصديق‮ “‬شياو دينغ‮” ‬قد وجَّه له ضربة عنيفة‮.  ‬
قال جدي‮: “‬سأُريك شيئاً‮”. ‬نهض جدي من علي الكرسي،‮ ‬إلا أنه تمايل،‮ ‬وترنَّح في مشيته‮. ‬أسندت جدي بسرعة،‮ ‬ولم أكن أتوقع أنه خفيف هكذا،‮ ‬فلم أبذل مجهوداً‮ ‬كبيراً‮ ‬حتي أرفعه من علي الأرض‮.  ‬
قلت بحزن‮: “‬جدي،‮ ‬إنك هزيل للغاية‮”.  ‬
أشار جدي إلي صندوق أعلي خزانة الكتب وقال‮: “‬اجلب ذلك الصندوق‮”.‬
داخل الصندوق مخطوطات جدي،‮ ‬تملأه بأكمله‮. ‬أخرج جدي بعضاً‮ ‬منها وأعطاني إياها قائلا‮: “‬اقرأ ذلك‮”.‬
تناولت المخطوطات علي مضض،‮ ‬وقلت بفتور‮: “‬حسناً،‮ ‬سآخذها معي وأقرأها في‮ ‬غرفتي‮”.‬
قرأ جدي أفكاري‮: “‬اقرأها الآن‮”.‬
لا‮ ‬يوجد هناك مخرج،‮ ‬اضطررت مُكرهاً‮ ‬علي قراءة مخطوطات جدي‮. ‬وما لم‮ ‬يكن متوقعاً،‮ ‬أنها تختلف تماماً‮ ‬عن مؤلفاته،‮ ‬ما بين سطورها نظرة نفاذة ومعرفة حقيقية،‮ ‬أشياء لم‮ ‬يذكرها أحد من قبل‮. ‬وكلما قرأت كلما شعرت بالإعجاب،‮ ‬وفي النهاية قلت مستسلماً‮: “‬جدي،‮ ‬إنك عظيم للغاية‮!”  ‬
استغرقت قراءة مخطوطات جدي أسبوعاً‮ ‬بالكامل حتي انتهيت منها‮. ‬إنَّ‮ ‬جدي مُفكر حقيقي‮.‬
مخطوطات جيدة كهذه،‮ ‬لماذا لم تنشرها إلي الآن؟ أصابتني الحيرة،‮ ‬فابتسم جدي بفتور وقال‮: “‬السبب الذي جعلني حياً‮ ‬إلي الآن،‮ ‬هو بالضبط لأني لم أنشر هذه المخطوطات‮. ‬لقد كتبتها لنفسي،‮ ‬وأنت الوحيد الذي قرأها‮. “‬أن تضع نتاج حياتك كله في صندوق وأن تعيش بهذه الطريقة،‮ ‬ما الفرق إذاً‮ ‬بين ذلك وبين الموت؟ لم أهتم بمعارضة جدي للأمر،‮ ‬يجب أن أنشر تلك المخطوطات بأي حال من الأحوال‮. ‬ولهذا تنازل جدي مضطراً‮ ‬وقال‮: “‬حسناً،‮ ‬لكن دعني أعدِّلها مرة واحدة‮. “‬في مساء ذلك اليوم،‮ ‬جلس جدي في مكتبه‮ ‬يُعدِّل المخطوطات،‮ ‬ولم‮ ‬يخرج حتي صباح اليوم التالي‮. ‬خشيت أن‮ ‬يكون قد أصابه التعب،‮ ‬فذهبت لأطمئن عليه‮. ‬حين فتحت باب المكتب،‮ ‬تسمرت ذعراً‮. ‬كان جدي جالساً‮ ‬علي الكرسي،‮ ‬وأمامه كومة من رماد الورق،‮ ‬ويده تمسك بمخطوطة لم تُحرق بعد‮”. ‬يا جدي،‮ ‬لِمَ‮ ‬أحرقت المخطوطات؟‮” ‬سألتُ‮ ‬عدة مرات،‮ ‬إلا أنَّه لم‮ ‬يرد‮. ‬فتحسست جبينه،‮ ‬كان بارداً،‮ ‬لقد توفي جدي منذ ساعات‮. ‬جَمعتُ‮ ‬رماد الورق الموجود علي الأرض ووضعته في الصندوق،‮ ‬وأقفلته جيداً،‮ ‬تلك هي أفكار مُفكِّر لم‮ ‬يجرؤ أن‮ ‬يُطلِعَ‮ ‬أحداً‮ ‬عليها‮.‬

يانغ‮ ‬هان قوانغ
عضو في رابطة كتاب قوانغشي،‮ ‬نائب رئيس جمعية قوانغشي للقصة القصيرة جداً‮. ‬يعمل الآن في اتحاد أدباء مقاطعة مينغ‮ ‬شان‮. ‬بدأ الكتابة الإبداعية منذ عام‮ ‬1987،‮ ‬ونشر العديد من القصص القصيرة والنصوص النثرية في عدد من الدوريات والمجلات الصينية‮: (‬مجلة القارئ‮) ‬و(مختارات من القصة القصيرة‮). ‬وحصل ثلاثون عملاً‮ ‬من أعماله علي جوائز أدبية مختلفة في الصين‮. ‬وقصة‮ (‬الأفكار المحفوظة في صندوق‮) ‬حازت علي الجائزة الأولي في الدورة التاسعة للقصة القصيرة جداً‮ ‬علي مستوي‮ ‬الصين عام‮ ‬2011‭.‬