كتب / عصام الزهيرى

مجموعة الفوضى الخلاقة للقاص هاني عفيفي:
التحول كمعنى وجودي حاسم للحياة

في المجموعة القصصية “الفوضى الخلاقة” يلتقي القاريء مع تجربة قصصية غير اعتيادية ولا مألوفة في مجمل المشهد القصصي، وأول ما يمكن أن يتبادر إلى ذهن قاريء المجموعة أن القاص لو لم يكتبها لتوفر على مدونة فلسفية تحاول بشكل منهجي بناء تأملاته الفلسفية التي تحتشد بها صفحات المجموعة على قلتها نسبيا. وهنا ربما ينكشف سر غرام السارد الفلسفي المتأمل دراميا والعابر لقصص المجموعة بفن القصة بالذات، فهو الفن الذي يمكن مالكه من رصد حقائقه الفلسفية في لحظاتها الوحيدة الممكنة، وفي حالتها الوحيدة الصادقة، أي في غمار علاقات التحول وفي صلب سير الحياة، وهو ما يمنح للكاتب – فيما يظهر – تعويضا فنيا مرضيا عن غياب النسق الفلسفي المنهجي الكامل المنضبط عبر تحويل واقع البشر والحياة والطبيعة كله إلى محراب تنبت من طينته الحكمة الفلسفية الأولى مقترنة بلحم ودم وعظام الواقع.
تبدو قصص مجموعة “هاني عفيفي” السبعة عشرة القصيرة على نحو لافت (معظمها لا يزيد عن ثلاث وأربع صفحات من القطع المتوسط وببنط الخط الصغير المستخدم في المجموعة لا يزيد عن صفحة وصفحتين) مرتكزة بكليتها على فرضية (حقيقة) التحول، التحول بمعناه الفلسفي والوجودي الشامل معا، فالكون والكائنات التي تظهر أبطالا في قصص المجموعة مثل التوأم الملتصق والسلطوي الديكتاتور وعابر جسر قصر النيل عبر أزمنة متعددة وورقة الشجرة وأحد علماء التحول وقطعان الغزلان…إلخ، كلها كائنات تعبر لحظتها المشحونة بالمشاعر في بؤرة غليان التحول القصوى، وهي البؤرة التي تختلف دراميا من قصة لأخرى، فالحياة تصبح بذاتها تحولا من خلال مقارنة أشكالها الاعتيادية بأشكالها الأخرى غير الاعتيادية، والعلم يصبح بذاته تحولا عندما يعمد إلى مغامرة اختراق الأزمنة، والحب يستحيل تحولا عندما يمتد ليعبر حدود الأنواع. في قصة “التصاق” التي يؤكد فيها السارد أن: “الحصانة ضد المفاجآت المتوقعة لا يتحلى بها الآخرون لكنهم قد يتحلون بالحصانة ضد المفاجآت اللامتوقعة” تذهب إلى أن الحياة يمكنها أن تتلاعب بالخلق وبأشكال كائناتها على نحو لا يلتزم بعاداتها “المأثورة” في الخلق، ولا يكون هذا “الشذوذ” في نهاية القصة غير منبع للدهشة والشهرة مما ينطوي على أفضلية ملحوظة على ما هو “طبيعي”. وفي قصة “القبر يتحرك أحيانا” يجد القاريء نفسه أمام فكرة تحول الزمن على نحو سريع ومتلاش بنفس سرعة وتلاشي رحلة على جسر قصر النيل، رحلة يقطعها الراوي داخل قبر متحرك، أي وسيلة انتقال تختلف باختلاف الأزمنة بداية من الحنطور الذي تجره الخيل.
في قصة “حتى تكتمل الحكاية” يؤكد: “الطبيعة هي من يسرق الإنسان منها عبقريته”، وفي قصة “أحلام الموت لا تصل خط الاستواء” تتجسد إمكانية التحول في طريق زمني معاكس لقصة “داخل قبرك متحرك” أي من الشيخوخة إلى الشباب. أما قصة “الفوضى الخلاقة” التي اتخذ منها عنوان المجموعة فهي تدور بلهجة حيادية ساخرة وباردة – رغم ذلك يطل منها الأسى – على محور بلاهة المأثورات، والمأثورات تلك المقولات الجامدة التي تحاول أن تنظّر أو تؤطر للثورة، أي أنها تُدخل ذروة فعل التحول المجتمعي البشري إلى ثلاجة المفاهيم غير الصادقة، وهي تقول في ختامها: “المأثورات هي تلك الأفكار العتيقة التي لا يوجد حكم قائم على مدى صحتها، فمن المفروض أنها بقيت بسبب مطابقتها لكل الأزمنة”، والمطابقة لكل الأزمنة لا تعني سوى الهروب من التحول، والهروب من التحول يعني الموت، أو ربما يعني على الأرجح أن يكون المعنى مصمتا، فارغا، جامدا، مفتقدا للقدرة على التحول التي هي نفسها القدرة على الحياة، وهو ما تشير إليه في وضوح أول قصص المجموعة بعنوان “التحولات العظمى في حياة طفل مصمت”، فهذه التحولات العظمي التي تتداولها بحفاوة كتب التاريخ الرسمية ليست في حقيقتها تحولات بأي معنى، وهذا الطفل المصمت هو السلطوي، أو صنم السلطة الذي يحاول أن يجمد الأزمنة ويجمد التحول ويقمط الحياة ويقلصها عند أصابع قدمي موميائه الصنمية.