الحلم الأمريكي في رواية غاتسبي العظيم

الحلم الأمريكي في رواية غاتسبي العظيم جاء مُحطمًا للصورة البديعة في أذهان البعض حول أرض الحريات.. فقد اكتشف مدى الزيف وأحس بخيبة الأمل وبثها في نفوس جميع من قرأ روايته، إنه “فيتزجيرالد” الروائي الذي ظل يبحث عن الحلم الأمريكي حتى وجده سرابًا فجاء بروايته الثالثة الأكثر شهرة ليجعلنا نرى نحنُ أيضًا هذا السراب.. دعونا عبر الواقع العربي الخوض في الحلم الأمريكي تحت عدسة “غاتسبي العظيم”.

الحلم الأمريكي في رواية غاتسبي العظيم

الحلم الأمريكي في رواية غاتسبي العظيم

إن جميع البشر قد خُلقوا متساوين، وإن خالقهم قد منحهم حقوقًا معينة ثابتة لا يمكن انتزاعها منهم، ومن بينها: حق الحياة والحرية والسعي من أجل السعادة

إنها سطور من إعلان الاستقلال الأمريكي الذي نُعت فيما بعد بالحلم الأمريكي، الذي يسعى إلى الحرية على أوجّها، ليجد فيه كل باحث عنها ضالته، فتنتشله مبادئ ذلك الحلم –المزيف- من الضياع.. ضياع أوروبا حيث الاضطهاد والعبودية هناك، فهل لا زلت تتساءل لم كانت الهجرة إلى أمريكا حينذاك؟

جاء ذلك الحلم -الذي اعتبره البعض حقيقة خالدة، وآخرون يسعون إليه كأسمى أحلامهم- في رواية غاتسبي ليشير كم هو زائف مُضلل، فما كانت أمريكا ولن تكون أرضًا للحريات أو الأحلام الطامحة، إنه حلم بالثراء من أجل الثراء.. الغاية فقط دون وضع اعتبار للوسيلة حتى وإن كانت على حساب الآخرين.. فكيف يكون للحرية هاهنا سبيلًا؟

فقد تحطم حلم “غاتسبي” بطل الرواية، حيث دمرته أحلامه في الوصول إلى القوة والتوسع والنفوذ والإنجاز في أرض الأحلام، فقد تغيرت مبادئه من أجل “ديزي” تلك الفتاة التي تعكس اهتمامًا مبالغًا فيه بالمال، وهي بحق من يُنسب لها الدور البالغ في تدميره.. هي “ماما أمريكا” التي اختفت بداخلها كل المعاني المفترض وجودها في فتاة، فلا مجال للعاطفة أو الجمال، إنما كان رمزًا للبرجماتية والنفعية والمادية البحتة.

تحليل رواية غاتسبي العظيم

اتخذت الرواية مدينة نيويورك لتكون مقرًا لما ستسترسل فيه من أحداث، فقد صورت أحلام المجتمع الأمريكي في العشرينات، حيث الثراء والملكية وأصحاب النفوذ.. لا إقطاع ولا فقر أو جوع، لتشير إلى “غاتسبي” ذلك الشخص الذي بدأ بتطلعات تصل إلى الأفق أشبه ما يكون بالأماني المستحيلة، إلى أن تصادم بواقعه شيئًا فشيء ليركز على كل ما هو ممكن.. لينتقل بعضها إلى “الخواء الروحي” فقد مات غاتسبي وأمات معه الحلم الأمريكي.

حيث جسدت الرواية فشل حلمه الأمريكي التي كانت تمثله “دايزي” فتلك التي كان يسعى إلى الوصول إليها، وهو الشاب حديث الثراء الذي اكتسب مكانة بين أصحاب النفوذ إلا أنه ما زال يشعر بالخواء.. خواء عاطفي وذهني، فهو لم يصل بعد إلى حلمه المتمثل في تلك الفتاة، آملًا أن يظفر بها طالما يزيد من مكانته ونفوذه وثرواته –بأعمال غير قانونية أو أخلاقية- لكنه في نهاية المطاف يجد الرفض المحقق منها، فينتهي حلمه عندها كما بدأ هناك.

فأخبرتنا الرواية كم كان المجتمع منقسمًا إلى طبقات، لم يكن يعرف للحرية والمساواة سبيلًا، ولا صلة من قريب أو بعيد.. فهؤلاء الأثرياء وإن كانوا أثرياء إلا أنهم منحلون أخلاقيًا أصحاب شهوة نفوذ وسلطة يسيرون وفقًا لأهوائهم، (من أجل تحقيق الثراء السريع دعونا نستبيح كل الوسائل اللاأخلاقية) لاسيما إن كان أحدهم من الأثرياء الجدد، يجد ضالته في كل ما هو غير قانوني ليفعله حتى يصل إلى أقرانه في مصاف الأثرياء.

كان الأرستقراطيون الأمريكان لا يرغبون في دخلاء، فهم جماعة من المتغطرسين، يستحوذون على كل الموارد تاركين ورائهم طبقات من الفقراء الأشبه بالمسوخ، افتقروا إنسانيتهم.. كانوا ضحايا لمن نالت منهم نفوسهم وأصبحوا عبيدًا لشهواتهم، فعاشوا هم في أدنى درجات المجتمع لم يكونوا ليتطرقوا إلى الحرية.. فقط كسب العيش!

الحلم الأمريكي يثير الاشمئزاز

كانت هناك مبادئ مُكرسة، أظهرتها رواية غاتسبي العظيم وكأنها مبادئ الحلم الأمريكي التي استند إليها ليكون حُلمًا.. ألا وهي:

  • الملكية: التي نادى بها “ميل” الفيلسوف كإحدى مرادفات الليبرالية، تمتلك كل شيء كفرد، إلا أن ما نسيه ميل أو يوضح أن تلك الملكية تتجاوز كونها ملكًا للمال فحسب، بل ملكًا للبشر والحجر.. وهذا ما أوضحته الرواية.
  • النفعية: إنها التي لا تعرف مجالًا للإنسانية أو الرحمة، لا سبيل فيها للتعاطف، في أوقات الحزن لا تجد من كان صديقك بالأمس، بل وفي أوقات الموت! فصديق “غاتسبي” عندما علم بخبر موته لم يلقِ بالًا بميعاد الجنازة بل كل ما كان يشغله مصلحة ما كانت في بيته يود لو أن الخادم يرسلها له.. فالسعادة هي الهدف الأسمى ولأجلها يصير كل شيء مباحًا، هكذا تنادي النفعية.
  • الطبقية: إن الحلم الأمريكي في رواية غاتسبي العظيم جاء معترفًا بالطبقية، بل ووصف الفقراء بأنهم كالأشباح التي تأتي في الليل لتبحث عن المأوى والطعام.. فالأغنياء يظلون طامحين في المال، والفقراء فقط يحصلون على العوائل.

وهم الحلم الأمريكي الزائف

فعندما تغير مسار الأدب في أمريكا مؤكدًا على أن الحلم الأمريكي ينادي بإتاحة الفرص أمام كافة المواطنين للثراء.. جاء الحلم الأمريكي في رواية غاتسبي العظيم بصورته الزائفة، ليجد النقاد أنها أظهرت كم هو أكذوبة ظلت سنوات عديدة يعتقد البعض أنها تنادي بمفاهيم ومبادئ.. قلة قليلة من توصلت إلى زيفه إثر تجارب، فذهبوا إلى أرض الأحلام على شبق أن يتنفسون الأحلام، وما وجدوا إلا الضياع.. والموت، تمامًا كنهاية غاتسبي.

فقد كان القرن العشرين على وجه الخصوص يشتعل بهوس فئات ليست بالقليلة بهذا الحلم، فكانت الممارسات غير القانونية متخذة مجراها من أجل الغاية الأعظم في تحقيق الثروات الطائلة.

حيث تحول المال إلى جسر للوصول إلى السعادة والحرية، وبسبب تلك السذاجة المفرطة إلى جانب سيطرة الشهوة الجامحة، بعدت الغاية وظلت الوسائل تتفاقم، فما كان للحرية إلا أن تندثر، وما كان لكل ما هو غير أخلاقي إلا أن يزداد اتساعًا، فيظل الحلم مدفونًا داخل كل من تُحركه تلك الشهوات الزائفة.

هكذا جاءت المقالات النقدية الأدبية لتلك الرواية الأكثر من رائعة والتي تم إصدارها 1925م، تؤكد على وأد هذا الحلم قبل أن يرضع من ثدي الزمن ويستفحل ليجعل أناس كثيرين مستنسخين من “غاتسبي” نهايتهم كنهايته، مصير تشاؤمي في كل زمان ومكان.

جاء الحُلم الأمريكي ليصور للبعض أن أمريكا هي أرض الأحلام، فلم لا وهي غنية بالفرص التي تنتقص دولًا أخرى، هي موطن الثروات والرفاهية والحريات.. دون أن يعلموا أن هذا الحلم قد استحال كابوسًا محققًا!