الصوابية السياسية والفن والسياسة

تستهدف الصوابية السياسية تغيير الأفكار والمعتقدات من خلال إبدال المرادفات والقضاء على التمييز اللفظي والرقابة اللغوية حتى لا تحدث أي إساءة إلى الأقليات، الأمر الذي يعني أن هذا الإبدال اللغوي المتقن ذو طبيعة سلطوية قهرية وافتعالية في بعض الأحيان.. وفي الواقع العربي يُمكننا الربط بين الصوابية السياسية والفن والسياسة على نحو أكثر تفصيلًا.

الصوابية السياسية والفن والسياسة

اختلف المقصود بالصوابية السياسية على مر الزمن، وتغير معناها ربما إلى النقيض، إثر ذلك كان من الصعب إرجاع الصوابية إلى تاريخ بعينه، إلا أن أنصار الليبرالية يعزمون أنها تعزو إلى الشيوعيين القدامى من كانوا متعسفين أشداء لا يرون إلا الحزب الواحد والفكر الواحد.

فكل نظام أو فريق يريد التفرد بأمر الصواب السياسي، باعتبار أن آرائه وأفعاله كانت صائبة والدليل على ذلك نتائجها في الحاضر، أي.. رواية التاريخ وفقًا لإرادة صانعه لا لما كان عليه بالفعل.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن النظام الروسي يريد احتكار الصوابية السياسية، بتكريس رواية تاريخية عن الاتحاد السوفيتي قبل تفككه، وما كانت عليه العلاقات السلافية، وأن أوكرانيا ما هي إلا دولة تهدف إلى تفكيك الوحدة الروسية.. مثال آخر نجده في الرواية الصينية.

التي تزعم أن النهضة كانت ناجمة عن الثورة الثقافية الماوية لماوتسي تونغ الرئيس الشيوعي، في حين أن النقيض من ذلك هو الأكثر صوابًا، فما شهدت البلاد نهضة إلا بعد الانقلاب على مفاهيم ماو!

إلى أن أصبح مفهوم الصوابية السياسية في عصرنا الحالي يعني كل عمل أو قول يصدر عن شخص ما بمراعاة منه للرأي العام ومسايرته في إحدى القضايا، على سبيل التوضيح: أن يقوم واحد من العلمانيين بالتصريح باستخدام جمل متوازنة في مجتمع ديني حتى لا يتصادم مع الحساسية الدينية لمواطني مجتمعه فيفقد تأييدهم له.

حيث تسعى الصوابية السياسية إلى الرفض والتقليل من الخطاب العنصري المقصود لتحاول تليين الألفاظ وإلغاء تداولها باعتبارها مهينة بذاتها، ومحاولة إلغاء فكرة أنها متجذرة تاريخيًا ضد فئة محددة، فألغت على سبيل المثال لفظة “عبد” والتي كانت تستخدم قديمًا إلى أن اندثرت شيئًا فشيئًا.

الأمر الذي يعني أن تصوراتنا عن الغير تتشكل إثر حديثهم إلينا، لذا كان لزامًا استخدام اللغة بعناية وانتقاء الكلمات بحذر بالغ، حتى لا تنكشف التحيزات ضد الهويات المغايرة، ومن هنا نجد أن الاستخدام الصارم للعة الصائبة سياسيًا يمنع تهميش تلك الهويات.. هذا كله وفقًا لآراء المدافعين عن عملية الصواب السياسي.

كما أن “ستانلي فيش” وهو من أبرز الشخصيات في حركة الصوابية السياسية أوضح أنها عبارة عن أداة يُمكن من خلالها التطرق إلى كل ما هو جيد وصحيح، حيث تأتي اللغة متوسطة في علاقتنا بالواقع، لتكون أساسية في توزيع القوة، وهي بطبيعتها غير عادلة.. لهذا كانت دومًا الحاجة إلى الصوابية السياسية.

تاريخ الصوابية السياسية في هوليوود

إن آلية استخدام السينما أصبحت هي الأقوى على الدوام لجذب قطاع جماهيري عريض وفق المعتقدات التي تطرحها، حيث إن للدعاية السياسية في السينما تاريخ طويل، فمنذ فيلم The Birth Of a Nation عام 1915 ووصولًا إلى The Great Dictator في 1940 تجلى أثر الصوابية السياسية في الفن والسياسة ومسارات التلفزيون في هوليوود.

فعلى سبيل المثال نجد في عام 1946 فيلم Song of The South المأخوذ من قصة “حكايات العم ريماس” وهو الذي يعكس الفلكلور الأفروأمريكي في جنوب أمريكا، حيث الشخص الأسود وهو عم ريماس له العديد من القصص وهو محاط بحيواناته (التي تظهر في الفيلم كرسوم متحركة).

من الجدير بالذكر أنه أحد كلاسيكيات ديزني الذي حاز على جائزة أوسكار، إلا أنه تعرض إلى دعاوى اتهام باعتباره يشير إلى العنصرية والتصوير اليوتوبي للجنوب الأمريكي.

فكيف ظهر العم ريماس سعيد وهو ما يتناقض مع حقيقة كونه عبدًا وقتها؟ كما أنه ظهر في الفيلم خاضعًا لسيده أبيض اللون، وعلى الرغم من إثبات أن الأمر يتجلى فيه علاقة الصوابية السياسية بالفن إلا أنه لا جديد في التحفظ على الفيلم حتى الآن.

هذا علاوة على سلسلة الكارتون الشهيرة التي تعرض للأطفال “Looney Tunes” حيث منع عرضها إثر تصنيفها كواحدة من الأفلام الممنوعة من العرض.. ولم لا وهي تصور نمطيًا باستخدام الرسوم المتحركة الأقليات العرقية؟

لم ننسَ من عرضنا إلى الأمثلة الحية الدالة على تأثير الصوابية السياسية في الفن تلك المظاهرات العريضة التي قامت احتجاجًا على فيلم The Birth of a Nation لأنه ينادي بتمجيد العرق الأبيض، فالأمر كان واضحًا أمام العيان.

الفن والتمثيلات المغايرة

لم تنحصر الصوابية السياسية في تغيير المفردات الخطابية، بل لامست الأطروحات الفنية بقدر كبير، إلى جانب أنها لا تقتصر على رفض ما هو خاطئ، بل تحاول التشجيع بالقيام بكل ما هو صائب.. فتزج مثلًا بقضية أيدولوجية ما أو سياسية في عمل فني حتى تُظهرها إلى النور بشكل واضح أمام الجماهير والشعوب لتمثل صورة أن ذلك العمل الفني “صائبًا سياسيًا”.

غنى عن البيان أن الأعمال الفنية أسهمت في طرح تمثيلات مختلفة ورؤى جديدة من نوعها حيث يثير الفنانون الكثير من القضايا في الساحة الإعلامية، أو يعملون على تحريكها ميدانيًا، فعلى سبيل المثال: إن أعلن أحد الفنانين عن ميوله الجنسية فهذا تحريكًا لفكر الرأي العام حول المثلية والشذوذ.

كما أن التاريخ العربي في هذا الصدد ليس في منأى عن الصوابية السياسية والفن والسياسة، حيث إن التفاعل بين الفن وتكوين الذات وإدراك الحقوق ظهر بوضوح منذ أيام شعراء المعلقات.. من كانوا ينسجون أشعارًا ساهمت في تغيير النظر إلى المرأة وعلاقات الحب بين الجنسين.

السينما في مواجهة الصوابية السياسية

مع زيادة حدة الصوابية السياسية المعروضة في الآلام بشكل ضمني غامض، جاء رد الفعل السينمائي بإنتاج مجموعة من الأفلام غير اللائقة سياسيًا، حيث تسيء بشكل واضح إلى البعض وتصويرهم بشكل غير مناسب، وتأتي أغلبها في إطار كوميدي كذلك.. هذا علاوة على محاولات عدة لتفعيل أجندة الصوابية السياسية بسياسات جديدة.

فعلى سبيل المثال استطاع “ويل سميث” الحصول على جائزة الأوسكار تأكيدًا على أنه لا مجال لعدم التنوع العرقي فيما بعد، إلى جانب إدخال عناصر متنوعة في الأفلام بين السود والبيض دون تمييز أو إظهار العنصرية.. كذلك لم يكن هناك إغفالًا للدور الرقابي القائم على تصنيف الأفلام وتفنيد فحواها.

لماذا الصوابية السياسية؟

أصبحت نوع من اللباقة اللفظية، التي ترتبط بإحداث تغيير جذري من الناحية التربوية والسياسية والاجتماعية، حيث تبلورت نتاجًا للحركات الصاعدة مطالبة بحقوقها، كالنسوية والأقليات والسود.. لتبدو في نهاية المطاف الصوابية السياسية هي التجلي الأمثل لنضال أي فئة مضطهدة في العالم من أقليات أو فئات مهمشة.

حيث يؤثر التمثيل الثقافي للعنصر الإنساني في الخطاب الجماعي، لأن التمثيل السلبي يؤثر بدوره على فئة مجتمعية في أمر تفاعلها مع قضاياها أو قضايا المجتمع بأسره، باعتبار أن الدراما الشعبية والأعمال الفنية واسعة الانتشار أثرت في الوعي المجتمعي بإعطاء صورة سلبية نمطية وأحيانًا مبتذلة عن الأقليات.

التوجه الصوابي اليوم

من بين التغييرات التي شهدناها مؤخرًا وجود إبدالات خاصة بمجموعات معينة، فبدلًا من استخدام لفظ (الشغالة) أصبح (الست اللي بتساعد ماما) علاوة على التعبير عن المعاقين بلفظ أكثر رأفة وهو ذوي القدرات أو ذوي الهمم.. كما تحول الشذوذ الجنسي إلى المثلية، بل وإدمان المخدرات أصبح يعني إساءة استعمال المواد المخدرة.. وأمثلة من هذا القبيل.

انتقاد الصوابية السياسية

تم انتقاد فكرة الصوابية السياسية لأنها تستبدل أي تعصب قديم بآخر جديد، حيث ترفض النقاش في أي من الموضوعات، كما أنها ترفض حتى بعض الإيماءات، على اعتبار أن المتطرف السياسي يسيء استخدام حقوق التعبير، فلا مجال لها.

فزاد انتقادها لاسيما مع تبنيها سياسة فردانية يكاد ينحصر اهتمامها على الملف الحقوقي، كما ينشد الصوابيون أهداف ليبرالية ويتبنون ممارسات لا ليبرالية، ويعارضون مبادئ الديمقراطية الغربية.. على أن الهجوم الليبرالي أيضًا يواجه الصوابية السياسية لدفاعها عن الحريات.

إلا أننا نشير إلى حقيقة مفادها أن الصوابية السياسية والفن والسياسة ترتكن إلى السلطة الاجتماعية في نهاية المطاف.. أي أن ما يُعول عليه في تحديد الصواب من الخطأ أغلبية المجتمع، فلم تتخلى أمريكا عن كلمة “زنوج” إلا بعد أن شعر السود بالفعل أنها مهينة وجارحة!

إنّ الصوابية السياسية تقتل الآراء الحرة، فعوضًا عن موضوعية التعبير تكون الصوابية السياسية أشبه بالفرض، فيضطر البعض إلى الامتثال لأخلاقيتها ومبادئها وفكرتها.