بقلم/عبير درويش
تداخلت النداءات.. باعة الصحف، وعمال المقهى، قرع الملاعق فى الأكواب، ودوامات السكر المتبلور أسفلها، أبواق السيارات وأصوات السائقين المُنطلقة بالسباب، تحلق الرؤوس حول أكواب الشاى وفناجين القهوة، وهمهمات تطوف حول الطاولات منها، وإليها، لا يحد الصخب الدائر فى الخارج من انبعاثها، حتى مواء القطة بين قوائم الطاولات وأحذية الجالسين .
فى بادىء الأمر اعتقدت أنها تبحث عن بقايا من سندويتش أحدهم، أو تندس لتلعق الرذاذ المتقاطر من كؤوس العصير، إلَّا إننى رأيت كلباً يخترق بوابة المقهى لاهثاً، وفمه يقطر لزوجة وذيله منتصب إلى الأعلى كراية حرب ويحاول اللحاق بها، بين أقدامٍ تسحق بقايا السجائر ورغباتٍ مقوضة ، حاولت النظر في الكتاب الذى لا أكاد أتبين صفحاته المغبرة ولا أملك القدرة على فك طلاسم المقولة التى تعصف بذهنى من الصباح، ولا أستطيع الامساك بها، رفعت نظرة تالفة استقرت على الجدار الزجاجى للمقهى من الجانب الأيسر وأزحت الستار لأراها تنزل من عربة تصطف على الجانب الآخر.
للمقهى اتجاه البحر، تطوى ورقة وتلقيها فى طيات حقيبتها الصغيرة وتعاود تأبطها، تعيد خصلاتها المتموجة الحمراء إلى رأسها الصغير، وتمسح ما علق بين أسنانها من طلاء بطرف سبابتها، وتلعق ما تبقى منه بلسانها وترفع طرفى صديريتها المرتخيين على الدوام من فرط ثقلهما، وتُحكم إغلاق سحاب بنطالها الجلد الذى ما يكاد يجمع شقيه حتى.. ينزلق مع خرفشة الورقات المالية، إنها هى، تلك الفتاة المكتنزة “ماجدة” التى كانت تطوف على الموائد وهى تتأبط حقيبتين زاخرتين بالبضائع الصينية وتلهث خلف النادل من أجل تمريرها خلسة، كنت أشترى منها بعض الأقلام، كتيبات التلوين ثم أهديها لأطفال الجيران، وكنت أتجاذب معها أطراف الحديث وكانت تصغى لأبيات شعرى المعطلة على الورق، وتشيد بها رغم ركاكتها، وأشاركها السخرية من الخرقى الذين يحاولون فى صبيانية واضحة لمسها، كانت تعتبرنى صديقة تدعمها وتبتهج حين تجدنى، لكنها حين دخلت تلك الطريق، تظاهرت بانشغالى بكتابى، وغرست نظرى أمام قدمي، وارتشفت مع فنجانى الأسئلة الموقوفة.. كلما مرت بصحبة أحدهم، يتبادل الجميع الرشفات الحزينة، والصمت، ونظرات التمعن والاستنكار، كانت ترمينى بنظرة أخرى.. كالجرح الأول للوجود والعدم ..”يا مريم البريئة” نعم بدأت أتذكر شيئاً من المقولة المفقودة، علىَّ أن أحاول معها، كان الأحرى بى حمايتها، الاستماع إليها.. ألا تمنح الحق لقطة التجأت لأقدامنا فراراً من الكلاب؟
بلى يستحق الأمر ملاحقتها هى، تأبطت حقيبتى وتأهبت للخروج فى إثرها، استوقفنى سقوط حمالتي صديرتي المرتخيتين؛ فرفعتهما، وهالنى الطلاء العالق بأسنانى الذى مسحته بمنديل ورقي، لا حظت تشبث القطة بالطاولة وتتبعها لخطواتى خارجاً.

 

فى الشارع حاولت التخلص منها، ونهرتها، لكنها ظلت تلاحقنى، وتعدو بجوارى، وقلت لا بأس الظلام خَيم ولعلَّها تؤنسنى فى رحلة بحثى عن “ماجدة”.. كثيراً ما أراها قابعة أسفل كوبرى “ستانلى”.
ظِلٌّ لأحدهم يظهر جلياً من انعكاس ضوء الأعمدة على طول الكورنيش، بفارق أمتار بينى وبينه، أخشى أن يكون متعقباً لى، وأنا وحدى بتلك الطريق، ظَلَّ يلاحقنى منذ مغادرتي للمقهى، وتتبعنى من الكورنيش، والكوبرى السفلى.. لكننى حين ألتفت خلفى لأتبين الظلَّ الملازمَ لى والقطة لا أجد أحداً!
أعلم أننى قد تخليت عنها، وأنها ربما لن تثق بى مرة أخرى.. الظلمة تشتد وظل المُلاحق مايزال فى إثرى، والشارع رغم اتساعه بتلك المنطقة إلَّا أنه يربكنى، ويُشعرنى بالتشتت.. “يا مريم البريئة من الخطيئة الأصلية……” نعم بريئة هى.
أين القطة لا أجدها..؟
أسمع مواءها لكننى لا أراها، صوتها يأتينى من الأسفل..!
التفتت بغتة لعلِّى أرى الظل أو تكون القطة معه، أسرعت بخطواتى نحو أسفل الكوبرى، لم أجد القطة ولا الظل، تملكنى الرعب، وجدت “ماجدة” تموء ويهتز ذيل أُستنبت لها، منحنية تخط على الرمال المبللة “يا مريم البريئة من الخطيئة الأصلية، صلى لأجلنا…….”
رفعت خصلاتى المهوشة الحمراء إلى الخلف، ونفضت يديَّ من الرمال فى بنطلوني الجلدي، نظرت إلى “ماجدة ” فرأيتُ الكلب ذا اللعاب اللزج يعتليها، بذيله المنتصب لأعلى، وفمه الذى يقطر لزوجة، ينهش جسدها الدامى بضراوة، لم أدرِ بحالى وأنا أقذفه بالحجارة، وأعمدة الشماسى الملقاة جانباً، حتى فر وأفلت منتحباً، لم أرَ الظل ولا القطة الملتجأة،.. لم أرَ أحداً.
ولم أستطع رتق التمزقات فى بنطلوني، ولا صوتى الذى تمزق مجروحاً بالأنين.. لم أستبنِ الصوت، ولم أستجمع الصورة، ولم أستدل إلى الظلِّ الذى انفصل عن صاحبه، أو ربما التحما الآن.
ولأن الخيوط تشابكت ثم تمزقت، وتعالت الأصوات جميعاً، الأبواق، وشتائم الباعة، ونباح الكلاب، ومواء القطط الهائمة، وهمهمات المرتشفين، وأزيز المقاعد وأصوات قرع النرد على الطاولات، وتداخل الأصوات والنداءات!
ربما لم يفطن أحد إلى نداء صامت صغير.. بمقولة مفقودة، لكننى وجدتها الآن على الرمال المبللة.
“يا مريم البريئة من الخطيئة الأصلية، صلِّى لأجلنا نحن الذين نلتجئُ إليكِ.. آمين”