بقلم : محمد أبوعوف

شباب المثقفين الآن يتجهون ناحية الغرب بكل قوتهم، فلا تجلس أي جلسة إلا وتجد الحديث يدور حول كافكا على الشاطيء، أو الأعمال الكاملة لديستوفسكي، بالتأكيد الانفتاح على الغرب وقرائته أمر واجب على المثقف العربي، لكن المشكلة تكمن في هجر الجذور، نحن نهجر أصولنا وننكرها جملة، لا نعرف عنها إلا القشور، فأتعجب لشاعر يكتب الفصحى أو العامية ولم يقرأ المتنبي، لا يعرف عنه إلا أنه ادعى النبوة !! إذا تحدثت معه عن المعري لا يعرف عنه أي شيء غير العمى.

كيف لكاتب قرر أن يضع نفسه في نفس دائرة المبدعين ولا يعرف من سبقوه؟

المبدع المحترف يخلف عن الهاوي، طالما قررت أن تكتب، فلابد أن تقرأ من سبقك لتعرف أين وقف وتبدأ من حيث انتهى، فأنت كاتب عربي تكتب باللغة العربية.

لكن الدعوى التي تسمعها غريبة، وتأتي برفض كل عربي واحتقاره، وتداخل الخيوط، فالمصريون فراعنة، والغزو العربي، والغزاة ماهم إلا مجموعة من رعاة الغنم لذلك فالأدب العربي هش وسطحي، لكن الأدب الغربي هو أدب عميق قائم على الفلسفة.

فيتوارى البحتري والجاحظ وأبو تمام وبشار وأبو الشمقمق ولبيد، والجرجاني وراء التراب، ويبزغ مكانهم جوتة وشتراوس وإيليوت وتشيكوف.

نهدم تاريخنا بأيدينا لنعطي ونبني في تاريخ ومجد غيرنا، قليل من يعرف نظرية النظم، ويستبدل مكانها نظريات نقدية غربية قرأها، وعند سماعك لناقد شاب، تجد تعليقاته تغص بأسماء النقاد الغربيين.

فأصبحت النتيجة مرعبة، وهي وجود حلقة مفقودة في تاريخ الأدب العربي، بدلا من أن يستكمل الشباب هذه الحلقة ويملأ الفراغ، تركها وذهب ليملأ فراغا ما وجب عليه إكماله.

فأصبحت العربية القديمة لغة أعجمية لا يفهمونها، وإذا ناديت بقراءة الشعر الجاهلي، كان الرد لقد أنكره طه حسين جملة في كتابه في الشعر الجاهلي، وكأنهم لم يكملوا قراءة كتب طه حسين فلم يقرأوا حديث الأربعاء ورغبة طه حسين في إحياء الشعر العربي القديم و أن يحيا من جديد وسط الناس، ولم ويفطنوا إلى رغبة طه حسين في إثبات وجود وحدة عضوية في معلقة لبيد بن ربيعة في بداية الكتاب، فقد أصبح طه حسين مدافعا عن الشعر الجاهلي وعن الأدب القديم بعدما زال انبهاره بالغرب وظل يثبت ويبرهن حتى حمّل القصيدة أكثر مما تحتمل.

ولنا أيضا في نموذج زكي نجيب محمود أسوة، فكان ينادي بالحياة الغربية جملة وتفصيلا، لكنه كتب بعدها عربي بين ثقافتين، قشور ولباب، قيم من التراث، مجتمع جديد أو الكارثة.

فقد كان يحمل مشروعا يبشِّر به في كل وقت وحين، وهذا المشروع يقول انظر لتاريخك وادرسه واقرأه جيدا وأعد إنتاجه وترتيبه وطوره، فبين جنباته توجد الفائدة.

انقد ما كتبه السابقون، لا تخف من النقد فالقديم غير مقدس لكنه مهم وأهميته بالغة.

فقد انقطعت الصلة وانبتت بيننا وبين تراثنا، و أصبحت لغة القرن الرابع والخامس والسادس الهجري قديمة لا تصلح للقراءة، وبدخول السوشيال ميديا، أصبحت كتابة العامية هي الأكثر انتشارا فأدت لمزيد من الانفصال عن العربية الفصيحة، فأصبحت صعبة، ملغزة.

ضاعت أسباب البحث العلمي وأصبح الاعتماد على جوجل والاقتباسات التي تنشرها صفحات الفيس بوك هي العماد الرئيسي لأنصاف المثقفين يريدون أن يعرفوا جلال الدين الرومي أو محمود درويش، لكن القليل من قرأ وفهم أمل دنقل لإنه لا توجد له صفحة على الفيسبوك يتعدى المعجبون بها المليون معجب.

قراءة الأعمال غير العربية مترجمة أو بلغتها الأصلية أمر مطلوب وهام وضروري، لكنه خطوة متقدمة يجب أن يسبقها قراءة تراثك العربي.

فالاتصال مع الأدب القديم وإعادة قرائته فرض عين على كل مثقف وكاتب وناقد، وإذا صعب الأمر وصعب فهم بعض الكلمات فعليك بمعجم لسان العرب، أو ديوان مشروح.

فهذا سيسهل المهمة كثيرا على القاريء لإنه سيجد الكثير من الألفاظ التي لن يفهمها.

يجب علينا أن نعتز بما أنتجه الأقدمون، ولا ننكره أو نهينه، فقد تركوا لنا إرثا ضخما لكننا لم نحسن استغلاله، وهذا هو دائما صراع الحضارات والتطلع للأفضل في أيام انهارت فيها بلاد العرب وبزغ شمس الغرب وتصدر العالم بفنه وأدبه وحياته الاجتماعية.

ولو أردنا أن نورد مثالا توضيحيا عن الأدب القديم، فللمتنبي قصيدة مطلعها:

  • مَلومُكُمـا يَجِـلُّ عَـنِ الـمَـلامِ  ” ”  وَوَقـعُ فَعالِـهِ فَـوقَ الـكَـلامِ

هذه القصيدة كتبها أيام إقامته بمصر، وتسمى قصيدة الحمى، لأنه كتبها أثناء إصابته بالحمى وقد وصف الحمى في مقطع رائع من القصيدة يقول فيه:

    • وَزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً..فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ
    • بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايـا..فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي
    • يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسـي وَعَنهـا..فَتوسِـعُـهُ بِـأَنـواعِ السِـقـامِ
    • إِذا مـا فارَقَتـنـي غَسَّلَتـنـي..كَأَنّـا عاكِفـانِ عَلـى حَــرامِ
    • كَأَنَّ الصُبـحَ يَطرُدُهـا فَتَجـري..مَدامِعُـهـا بِأَربَـعَـةٍ سِـجـامِ
    • أُراقِبُ وَقتَها مِـن غَيـرِ شَـوقٍ..مُراقَبَـةَ المَشـوقِ المُستَـهـامِ

 

  • وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِـدقُ شَـرٌّ..إذا أَلقاكَ فـي الكُـرَبِ العِظـامِ

المتنبي هو الشاعر الذي قيل عنه (ملأ الدنيا وشغل الناس)، فظهوره كشاعر ضخم شغل الناس جميعهم، وملأ حواسهم وأفكارهم.

فهذه القصيدة من روائع الشعر العربي، والمتنبي فنيا شاعر لم يسبقه شاعر عربي آخر إلى الآن، لكن يبقى السؤال كم فرد قرأ ديوانه كاملا ودرسه ونقده أو قرأ بعض ما كتب عن المتنبي.

ونجد أيضا كتب المختارات الشعرية مثل المفضليات والحماسة فهي مليئة بعيون الشعر العربي والروائع التي تمتع أي قاريء جيد.

لن أتحدث هنا عن شعراء الأندلس، ولا شعراء المغرب ولا مصر ولا الشعر الصوفي، ولا ابن قتيبة ولا ابن عبد ربه، والأصفهاني، والقاضي عبد الجبار، فالمجال لا يسمح بالاستطالة والاستزادة مما كتبوا.

لكن في النهاية هي مجرد دعوة صغيرة في ظل توافر كتب الأدب بصيغ الPDF، ووجود المعاجم الإليكترونية، فإننا نستطيع أن نستغل هذه الإمكانيات في النظر لتراثنا نظرة جديدة تحمل روح البحث العلمي والدراسة التي تمكننا من التوغل في سطوره وقراءته في ضوء عصرنا الحديث.

وأختم المقال بما قاله طه حسين في حديثه مع صديقه الذي يدعو لإن يظل الأدب القديم للدارسين في الجامعات وحجرات الدرس ولا يخرج للعامة لإنه صعب لا يستساغ ولا ذوق أو فن فيه.

فقال له العميد في كتاب حديث الأربعاء عن معالجة الأدب القديم:

(( إنما أمر الأدب القديم عندي أشبه بحديقة طال عليها الزمن، وأهملت إهمالا متصلا، ولم تنقطع عنها مع ذلك مادة الحياة، فمضت أشجارها وشجيراتها تنمو في غير نظام، هذا النمو المهمل المضطرب، حتى اختلط أمرها اختلاطا شديدا، فأنتم قد ألفتم الحدائق التي يتعهدها البستاني إذا أصبح ويتعهدها إذا أمسى، تريدون أن تسعوا في الحدائق دون أن يعوقكم التفاف الشجر.

نحن لا نحب أن يظل الأدب القديم في هذه الأيام كما كان من قبل، لإننا لا نحب القديم من حيث هو قديم، ونصبو إليه متأثرين بعواطف الشوق والحنين، بل نحن نحب لأدبنا القديم أن يظل قواما للثقافة، وغذاءا للعقول، لإنه أساس الثقافة العربية، فهو إذن مقوم لشخصيتنا، عاصم لنا من الفناء في الأجنبي، معين لنا أن نعرف أنفسنا)).