الواقع العربي

نوقشت بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية رسالة الماجستير المقدمة من الشاعر والباحث حامد أنور بعنوان: “الولي في المعتقد الشعبي- دراسة ميدانية في الأنثروبولوجيا الثقافية” وقد تكونت لجنة المناقشة والحكم من الأستاذ الدكتور أيمن تعيلب أستاذ النقد الأدبي الحديث عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السويس، الأستاذ الدكتور سعد بركة أستاذ ورئيس قسم الأنثروبولوجيا بالمعهد، الأستاذ الدكتور محب شعبان أستاذ الأنثروبولوجيا بالمعهد، حيث أقرت اللجنة بعد مناقشة الباحث مناقشة علنية منحه درجة الماجستر بتقدير امتياز.

يقول الباحث في متن رسالته: “لقد انشغل الباحثون برصد عالم الأضرحة وما يكتنفه من خفايا تبدو في ظاهرها طقوسًا وممارسات عادية قد يتفق أو يختلف معها العامة والخاصة من أهل الثقافة والعلم، لكنها تكتنز بداخلها دلالات ورموز ومعتقدات تحتاج إلى دراسة وبحث لتحليل وتفسير هذه الظاهرة الضاربة في عمق الذات الإنسانية في المجتمع العربي بعامة، وفي دولة الجزائر على وجه الخصوص؛ حيث “شكّلت زيارة الأضرحة، في تقدير بعض الأنثربولوجيين، متنفسًا وخروجًا عن العالم المادي إلى العالم الروحي، ممثلاً في رمز الولي الصالح، واعتبرت محاولة للهروب من الحياة الدنيوية إلى الخيال المقدس، كمـا أن هذه الظاهرة مثّلت تواصلاً بين الماضي (الجميل) والحاضر (المفزع) عند استذكار فضائل وكرامات أصحاب الأضرحة، وفي ذلك أيضــًا استحضار لذكرى الأجداد والأولين واستلهام لبطولاتهم وأمجادهم بشكل غير مباشر، وكل ذلك من شأنه إضفاء بعض الإشراق والفرح على الواقع المر، وشحن الناس بالطاقات الايجابية ومواجهة مشاكل الحياة العصيبة.

وتمتلئ الطقوس التي تمارس داخل وفي محيط الأضرحة بدلالات “رمزية سيميولوجية بالنسبة لدارس الظاهرة لكنها بالنسبة للممارس ذات دلالة واقعية وتنتج عنها آثار واقعية، لأن الممارس يعتقد في وجود قوة غيبية حاضرة وفاعلة في عناصر الطبيعة وخصوصا تلك المتواجدة في محيط وداخل الضريح لأنه يعتقد أن الولي المدفون في ذلك الضريح مازال حيا وحاضرا كقوة مؤثرة في حياة الناس، هذه القوة التي يسميها الناس البركة، ويغلفونها بغلاف ديني هي امتداد وتجسيد للإحيائية التي اعتقد فيها الإنسان منذ فجر التاريخ، لذا يحاول الباحث أن يتعرف على الدلالات الرمزية للضريح عقيدة وممارسة من خلال رؤية الممارسين أنفسهم واستشعارهم به، ومحاولة الوصول لعمق ما يشعرون به وما يعتقدون به.

وفي دولة الجزائر تتركز معظم مقامات الصالحين والأضرحة التي تحظى بزيارات عديدة ومكثفة في مناطق القبائل، فلكل قرية أو بلدة أو مدينة ولِيها، يقام على ضريحه مقام أو قبة يزوره الناس، وتختلف شهرة هذه المقامات وهؤلاء الأولياء وتتفاوت بقدر الأساطير التي نسجت حولها، وتبعا لذلك ذاع صيت بعضها وتجاوز حدود القرية أو الجهة التي ينتمي إليها، حتى أصبح رمزا معروفا في كل البلاد كما هو الشأن بالنسبة لـسيدي عبد الرحمن الثعالبي، موضوع هذه الدراسة.

هدفت الدراسة كما يقول حامد أنور إلى فهم تصورات المريدين عن الولي، وهل تتشابه مع التصورات الشعبية الأخرى في أي مجتمع عن الأولياء؟ بالإضافة إلى فهم الأسباب النفسية والروحية والاجتماعية والثقافية لزيارة الضريح وإجراء الطقوس والممارسات، ومدى اقتراب أو ابتعاد هذه الممارسات والمعتقدات عن السياق الديني العام، وبذلك يتركز البحث حول عبد الرحمن الثعالبي كنموذج على الاعتقاد الشعبي في الولي حول محورين رئيسيين:

الأول: هو رؤية المريدين للولي ومحاولة فهم الصورة المتجسدة والراسخة لذلك الولي في الوجدان الشعبي الجزائري (أفكارهم الباطنية) التي يستدل عليها بالمقابلات والحوار.

الثاني: الممارسات الظاهرة التي تؤكد وتدل على المعتقد، والتي يلاحظها الباحث أثناء الاحتكاك المباشر بمجتمع البحث.

أما الفصل الثاني فقد تناول مجتمع البحث “منطقة القصبة بالجزائر العاصمة” من حيث: الخصائص الإيكولوجية لمنطقة الدراسة، والتركيبة السكانية في المنطقة، والنشاط الاقتصادي، والتنظيم الاجتماعي ونظم الإقامة فيها، والملامح الثقافية العامة لها، والمناسبات الدينية في المنطقة، والولي محل الدراسة (خلفية تاريخية)، ووصف إثنوجرافي لموقع الولي وسط منطقة السكن، ووصف الضريح وطريقة بنائه والرسوم والنقوش الموجودة به.

أما الفصل الثالث الذى اتخذ عنوانا له “رؤية المريدين للولي (المعتقد)”، فقد تناول الجانب الميداني للدراسة من حيث: أفكار المريدين حول الولي؛ من حيث شكله وهيئته، وأفكار المريدين حول كراماته، وصور تقديس الولي، وصور الارتباط الروحي بين الولي والمريدين، ومكانة الولي وقيمته الدينية، والاعتقاد في قدراته في الشفاء والعلاج، والتداخل بين الاعتقاد في الولي والمعتقد الإسلامي، وآراء علماء الدين في الاعتقاد في الولي والممارسات بمجتمع البحث. وقد اختتم الفصل برصد الأساطير التي ارتبطت بالولي الصالح عبد الرحمن الثعالبي في الأسطورة الجزائرية.

أما الفصل الرابع الذى اتخذ “الممارسات الشعبية المرتبطة بضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر” عنوانا له فقد قُسم إلى: الزيارة لضريح الولي – الهبات والنذور للولي

أولاً: الزيارة لضريح الولي، وتتضمن: الزائرين من حيث: مواعيد الزيارة وارتباطها بأوقات محددة خاصة بمولد الولي، والزيارات الجماعية، والزيارات الفردية، وزيارات الرجال والنساء والأطفال، والزيارات الداخلية (من داخل الجزائر)، والزيارات الخارجية (الوفود من خارج الجزائر)، وزيارات من غير المسلمين، وخلفيات الزائرين الثقافية والاجتماعية، كما يتناول الفصل طقوس الزيارة: من حيث ارتداء زي معين، والدخول على المقام وما يرتبط به من سلوكيات، وما يقال عند الزيارة، والأدعية والأذكار التي تقال، ومدة الزيارة، وأحوال الزائرين عند تواجدهم في فضاء المقام.

أسباب الزيارة: هل هي أسباب علاجية، أو أسباب نفسية، أو أسباب روحية، أو أسباب اجتماعية، وارتباط الزيارة بشعائر دورة الحياة (زواج- ختان – ميلاد – وفاة)، أسباب دينية.

ثانيًا: الهبات والنذور للولي؛ من حيث أشكال الهبات، والنذور، والأطعمة.

ثالثاً: الحضرات؛ من حيث مواعيد الحضرة، وما يتم أثناء الحضرة.

استعان الباحث بنماذج من الدراسات السابقة التي سجلت بالجامعات الجزائرية، والتي ارتبطت بزيارة الأضرحة والزوايا في عدد من الولايات، بالإضافة إلى دراسة أجريت في مصر في محافظة الشرقية؛ للوقوف على مشكلات هذه الدراسات، والنتائج والملاحظات التي توصل إليها الباحثون، والتي قد تتماس أو تتقاطع أو تتعارض مع الدراسة الحالية، ومشكلاتها ونتائجها في الإطار ذاته، بالإضافة إلى تناول الصورة المختلفة للولي والولاية بوصفها مدخلا نظريا؛ من حيث: الولي والولاية في الدين الرسمي، الولي والولاية عند المتصوفة، الولي والولاية في الموروث الشعبي.

وقد اختتم الباحث الدراسة بما توصل إليه من نتائج وإجابات عن تساؤلات الدراسة والتي تتلخص في:

  • تلتقي جميع الدراسات السابقة أو معظمها في رصد عالم الأولياء وما يحيط به من طقوس وممارسات، وإن اختلفت الدراسة من منطقة إلى أخرى من حيث الشكل، لكن جميعها تؤكد على وجود الظاهرة واستمرارها.
  • استفاد الباحث من الدراسات السابقة من حيث تناول الموضوع والنظريات المستخدمة وتفسير الظواهر وتحليلها وصولا إلى النتائج النهائية.
  • معظم الدراسات السابقة تطرقت للعديد من الممارسات التي تتم داخل الضريح، وبخاصة الأضرحة في عدد من ولايات الجزائر، وهو ما يتسق مع ما قام به الباحث من رصد للممارسات التي تتم في ضريح عبد الرحمن الثعالبي، نظراً لانتمائها إلى ثقافة وتقاليد ولغة واحدة.
  • معظم الدراسات السابقة ركزت على العديد من المفاهيم مثل: (الولي- الضريح- البركة)، باعتبارها مفاتيح مهمة لدراسة أضرحة الأولياء وهو ما قام به الباحث للولوج إلى تصورات الزائرين حول الولي موضوع الدراسة.
  • بعض الدراسات لم تستفيد من القصص والأساطير التي يتم تداولها حول الولي، باعتبارها أهم العناصر الكاشفة عن صورة الولي الراسخة في المخيلة الشعبية.
  • يطمح الباحث أن تكون هذه الدراسة لبنة جديدة تضاف إلى الدراسات السابقة على هذه الدراسة وتغطي بعضًا من الجوانب التي غفلتها الدراسات السابقة، والتي تبلورت في ماهية صورة الذهنية التي تشكلت لدى المريدين عن الولي عبد الرحمن الثعالبي، كذلك فيما يتعلق بالدور الذي تلعبه زيارة الأضرحة في حياة الفرد.
  • إن الطقوس والممارسات التي ارتبطت بزيارة ضريح عبد الرحمن الثعالبي، تتشابه إلى حد كبير مع الطقوس والممارسات التي ينتهجها المسلمون في الأماكن المقدسة، كالطواف والتضرع بالدعاء، والصلاة والتقرب بالصدقات؛ طلبًا للبركة وطمعًا في قضاء الحاجات وبلوغ الغايات، باعتبار ضريح الثعالبي معلمًا قدسيًا لا يقل أهمية في زيارته عن الأماكن المقدسة الثلاثة التي تشد إليها الرحال.
  • احتل عبد الرحمن الثعالبي مكانة كبيرة في عقول وقلوب الجزائريين بوصفه عالمًا كبيراً ووليًا صالحًا، فهو حامي الجزائر وبركاتها وأبوها الروحي، لذلك سيمت الجزائر ببلاد سيدي عبد الرحمن تبركًا بهذا الرجل الذي ينتهي نسبه إلى آل البيت، لذلك كان الارتباط العقلي والعاطفي بضريح الثعالبي نابعًا من كونه رجل دين وعالما وقاضيا ومجاهدا كبيرا.
  • إن زيارة ضريح الثعالبي ما تزال تلقى اهتمام الوافدين الجزائريين في الداخل والخارج؛ لما ارتبط به من كرامات تناقلتها الأجيال وروتها في أساطيرها وقصصها وأغانيها الشعبية، لذلك فإن الاعتقاد الراسخ ببركة وكرامة عبد الرحمن الثعالبي في علاج الأمراض، وتزويج العانس، ودرء الشر، وتيسير الإنجاب، والتنفيس عن الروح؛ ما يزال يلعب دوراً مهمًا في حياة الجزائريين، ويخفف عنهم وطأة الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما تجلى في سلوك الوفود التي ترد إلى مقام الثعالبي.
  • احتفظ زوار ضريح الثعالبي بصورة ذهنية إيجابية لصاحب المقام بوصفه بركة الجزائر وحاميها، وما من زائر إلا وله واقعة ربطته بصاحب المقام، حيث تجلت كرامته باستجابته للدعاء أو في الشفاء من الأمراض والعلل، أو في تحقيق مراد عجز الطب والعلم الحديث عن إيجاد حلول له.

ومن خلال هذه الدراسة استطاع الباحث رصد الطقوس والممارسات المرتبطة بزيارة ضريح عبد الرحمن الثعالبي، المتمثلة في الطواف حول الضريح، رش العطور على الضريح، اشعال الشموع، تحية الضريح في الدخول والانصراف، البكاء أمام الضريح، التمسح بستار الضريح، هذه الممارسات نابعة من الاعتقاد الراسخ في الولي عبد الرحمن الثعالبي على استجابة دعاء الزائر بوصفه وليًا صالحًا شهد بكراماته الجميع عبر تاريخ الجزائر، فهو حاميها وبركتها والأب الروحي.

كما أجابت الدراسة على سؤال مفاداه، هل هناك علاقة بين المعتقد الشعبي وشخصية الولي في المعتقد الإسلامي؟ وهو ما تجلى من خلال المقابلات التي أجراها الباحث في فضاء الضريح، والتي كشفت عن الخلط الواضح بين شخصية الولي في المعتقد الشعبي والمعتقد الديني الرسمي، وبخاصة في الزيارة، إذ يعتبر البعض أن زيارة الأماكن المقدسة لمن يستطيع ومن لم يستطع فزيارة سيدي عبد الرحمن، بالإضافة إلى القصص والأساطير التي صبغت عبد الرحمن الثعالبي بصبغة الأنبياء في تصديه لحملات الغزو لمدينة الجزائر، وتصديه لأعمال الحفر التي كانت تتم بقرب الضريح فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، إضافة إلى اسطورة البقرة آكلات الأسد.

أما فيما يخص الصورة الذهنية التي تشكلت لدى المريدين عن عبد الرحمن الثعالبي، أنه صاحب كرامات لا ينكرها زائر، وبخاصة من ارتاد المكان في السابق بغرض طلب الشفاء له أو لأفراد أسرته وهي الصورة الراسخة في الوجدان الشعبي الجزائري، وهو ما صورته أيضًا القصص والأساطير التي تناولت كرامات الولي، إضافة إلى كونه عالمًا كبيرا ومجاهدا ووليًا صالحاً.

لأن الأضرحة تمثل سمة اعتقادية في المجتمع الجزائري، ومهيمنة على السلوك الديني والثقافي لدى أفراد المجتمع، فإن وظيفة الأضرحة الدينية والثقافية والاجتماعية تتجلى في بنية المجتمع الكلية طبقا لخصوصية الولي ونسبه وبركته وكراماته، وتأثيره في المجتمع أثناء حياته، وهو ما يتوافق تمامًا مع شخصية عبد الرحمن الثعالبي الذي عُرف كعالم وقاضٍ ومجاهد، الأمر الذي يعكس طبيعة الممارسات والطقوس التي يقوم بها الزائرين لقضاء حاجاتهم.

اكتسب ضريح عبد الرحمن الثعالبي شهرة واسعة في دولة الجزائر، وليس في الجزائر العاصمة وحسب، هذه الشهرة ألقت بهالة روحية في أذهان وعقول الجزائريون، فأصبح ضريحه مزارا ومقصداً لنيل البركة وسعيًا لتحقيق الأمنيات والشفاء من الأمراض.

الخصوصية الاعتقادية التي اشتهر بها عبد الرحمن الثعالبي تبعًا لتاريخه الكبير الذي ارتبطت به الجزائر، ساعدت على استقطاب العديد من الزائرين إلى ضريحه، بالإضافة إلى الطقوس المرتبطة بهذه الخصوصية والممارسات اكسبت ضريح الثعالبي شهرة واسعة.

الكرامة التي أحاطت بضريح الثعالبي في المجتمع الجزائري والتي تترجم إلى البركة في مجتمع البحث، أكسبت الضريح رأسمال رمزي تتأتى عليه تقاليد وطقوس تظهر وتتجلى من خلال التعامل مع الضريح لما يملكه من قداسة تؤكد زعامته الروحية في شفاء المرضى وتحقيق الأمنيات وتزويج العانس، كما أنها سارية المفعول كسبها الولي في حياته ككراماته في التصدي لحملات الغزو، والقصص والاساطير التي ارتبطت به اثناء حياته وبعد مماته، كما وأن الالتفاف حول ضريح يترجم مجموعة من الرموز والمعاني تتعلق باستجابة الدعاء وفك الكروب.

فضاء ضريح الثعالبي أعطى للمرأة مكانة اجتماعية وسلطة، لأن الضريح يمثل قوة أعظم من الرجل الذي يقهرها، بالإضافة إلى أن الضريح يمثل فضاءً للحرية النفسية للمرأة، وهو ما لاحظه الباحث من غالبية الزائرين هم من النساء الذين يمكثون داخل الضريح لساعات، عكس الزائرين من الرجال.