درون من سيبكي اليوم يا سادة ؟ أطفال القرى البعيدة و بنات المخيّمات …
صبية لا يعرفون رمال الشّواطئ و زُرقة البحر و النّسيم الّذي تطرحه الأمواج على وجوه الدّعة فتلهو بخصلات شعر أشقر لأجنبيّة لا تنتمي لهذا التّراب …
لا يعرفون مشهد الباخرة الّتي ترسو في أحضان موانئ شرقيّة تأتينا بسلع و ما لا أدري…
لا يعرفون اليخت الكبير الّذي يربط بحارنا بأخرى تلوح في مدى الأفق حاملة سيّاحا يجب ألاّ تتعبهم الرّحلة …
لا يا سادتي … كنت قد أخطأت التّقدير و التّعبير …
أولئك قد عرفوا البحر أكثر من أهل السّواحل و السيّاح …
نعم عرفوا …. أكثر … و هم بعدُ لم يمثلوا في حضرته …
عرفوا مِلْحَهُ الّذي أزهر في قلوبهم شوقا …
أحصوا أعشاش النّوارس بين شطآن البحر و رماله و انتظروا يوما يشتدّ فيه ريش الفراخ لتسعى فيه رحلةً أولى …
عرفوا مواسم هجرة البجع و أوان عودتها …
احتفوْا بمنظر البطّ ينتظم صغاره وراء الكبار لأوّل مرّة يغادرون فيها البيض فيغسل الماء المالح ما علق بهم من بيتهم الأوّل …

هم لم يعرفوا من علّم الفراخ السّباحة قبل ذلك و لم يسألوا …
أحصوا أنواع السّمك و مواعيد البيض و لم تصبهم الدّهشة يوم شاهدوا عِظَمَ الحيتان لأنّ البحر كان أعظم …
أحصوا الموانئ الشّرقيّة و حتّى الغربيّة – المتوسّطيّة منها – و تحدّثوا بلسان واحد مع البحّارة الآخرين …
فالبحر يوحّد الألسن بقدر ما يعدّد الوجهات …
عرفوا البحر ساعة صحوه و أحبّوه أكثر ساعة يغضب لأنّ العاصفة قد تطول و تطول معها الأمواج لكنّها ستعود في النّهاية لعمق البحر منهكة … و لأنّ المطر مهما دام لن يمزج ماؤه الحُلو ملوحة البحر …
فالأوّل وافد من السماء و الثاني أصيل ممتدّ و سرمديّ …
يحرّضون الجزْر أن يتمهّل عندهم أكثر في كلّ مرّة حتّى يطرحوا عنده كلّ حكاية يودعها اليابسة في كلّ مدّ حتّى تخبر عنهم … و يستوصونه العودة سريعا حيث سيكون في جُعْبَتهم المزيد …
طريقهم في البحر لكنّ دليلهم في السّماء : نجوم و مدارات …
دون الآخرين يحظى هؤلاء بقمرين أوّل في السّماء و ثان على صفحة البحر …
هذا الّذي علّمهم أن البحرمرآة غير أمينة …
وإن بدت صورة القمر مشوّهة على مرآة البحر فهي تدعوهم باستمرار ” ألاّ يصدّقوا بسذاجة كلّ ما يُرى ؟ ”
هل ستصدّقونني لو قلت إنّهم يميّزون همس الكائنات المجهولة في قرارها المكين ؟
يعرفون … و يعرفون … و يعرفون … أكثر …
لن تمحَ صورة الأعلام المؤذنة بيابسة جديدة تتلوها عودة و رحلة جديدة ولا ضوء المنارة الّذي يؤذن ببحر جديد و قِبْلَة أخرى ولا مضجع الشّمس في بحر الغروب … لا عجب إن عرفوا كلّ ذلك …
فقد طوّح بهم ” الياطر “و أضاءت لهم ” المصابيح الزُّرق ” و اهتزّ لهم ” الشّراع ” …
فقد ركبوا سفينة ربّان متمرّس يعرف البحر كما يعرفه البحر … واليوم رحل عنهم ” حنّا مينه ” حنين للموانئ و شغف بالبحار … لذلك … سيبكون …… ماء مالحا كماء البحر …

تونس في 05 مارس 2015

شعيب بنبوبكّر : باحث من تونس