كنت فى المطبخ صباحا ، أعد طبقا من الفول بالزيت والليمون ، ولحظة ، هى لحظة ، أو ربما تكون إغفاءة ، نظرت خلالها إلى شعلة النار المنبعثة من عين البوتجاز ، ورايت ما كان يجب أولا يراه غيرى ، وسمعت ما كان يسمعه أحد ، ربما سمعته قديما ، أو صدر من شخص أعرفه ، أو أكون قد قلته ، أو كتبته من قبل.

أو قالته امرأة ما غيرى ، فى زمن ما غير هذا الزمن ، المهم أننى سمعت حوارا كاملا دار بين امرأتين من زمنين مختلفين ، كنت أنا طرفا فيه ، سمعت الولى تقول لى : لالا أنا أقول لها ، لالا ، لا أعرف من تحثت أولا!

ولكن ما عرفته جيدا ، هو أنه كان حديثا طويلا ، وشيقا ، بين اثنتين مختلفتين ، وانا طرف فى اللعبة .

إنها الرواية .

كنت لا أريد أن أكون شخصيا فى هذا المستوى من الخطاب !

لم أكن أريد أن تكون لى علاقة به !

من شطب، وحذف، وقطع..

كنت لحظتها شفافة ، وهادئة ، ومطيعة ، ومفتوحة بلا نهاية على العالم ، وتاركة كل الخطابات السابقة على وجودى!

وأحاول أن أبحث عن خطاب غير سلطوى فى حديثى معها ، ولكننى وجدتها أمامى..

امرأة كاملة وعاقلة تمسك بيدى ، وتربت برفق وتقول لى : لا تخافى من أية سطوة أو تعنت أو تلاشى ، فانا بشكل ما وضع مؤقت ، لحظة متواترة فى الوجود ، لا توجد حقيقة مطلقة ، ولا هناك حكم نهائى!

ولكن عليكى ألا تخافى منى هكذا!

فأنا مثل الكلمة أستمد سلطتى من سلطة الأخرين.

اقرأ أيضًا: نادين أيمن تكتب قصة قصيرة بعنوان زجاجة فارغة

ثم قامت بتضميد يدى من الحرق الذى أصابها ، لن أنسى صرختها الإنسانية وهى تقول لى: ياحبيبتى إيدك أتحرقت!

كانت تشبه تماما صورة ميرام التى صنعتها داخل الرواية ، ومعبرة تماما عن تشنجات وجهها التى تحدث عندما كنت أشعر بالألم تجاهها وهى تعطى الدواء لنفسها كى لا تنام أما الأخرين.

الوجه الذى أمامى الآن ليس وجهى، ولكنه الوجه المتمنى / الحلم.. اللاتحقق!

حاولت رسم صورة لها وهى تخرج من النار ، واسميتها صاحبة اليد المحترقة ، ولكننى بعد ذلك اكتشفت أننى رسمت صورة لنفسى ، صورة لمريم ، واكثر تعقيدا من صورة ميرام ، وأكثر إنسانية من صورة فطوم.

لم أكن أعى جيدا أى وجه هذا الذى أمامى؟

خطوط متشابكة ومتداخلة ، وألوان كاتمة وحزينة ، ومصير غامض وعبثى فى نفس الوقت.

والأخضر بدرجاته يلعب دورا بارزا.

عندما وقفت أمامها، وهى ترشف من فنجان الشاى، قالت بود: هذا وجه امرأة معطاءة..

ولكنها تعطى بحزن..

واسمها ميرام أو فطوم..!

ولا حظت أن هناك لهبا ما يتوارى خلف الألوان.. ضعيفا وقليلا..

ويد محترقة تخرج من اللوحة.

ضحكت بعفوية وقالت: الله دى إيدى!

عندما حاولت إنقاذك من النار حرقت يدى!

خرجت من الحجرة، وتركتها تتأمل اللوحات، وانا تسيطر على رأسى فكرة مجنونة..

من أنقذ من؟

أنا التى أنقذتها!

وحرقت يدى..

ومازالت بعض أثار الحريق واضحة.

وهى تضحك وتقول : إنها هى التى أنقذتنى!

رفعت رأسى من داخل الحبل المعلق.

مع العلم، أنا التى أنقذتها!

وهى ألقت بالجثة من الشباك.

اقرأ أيضًا: مجموعة قصصية “أزمة حشيش” نصَّا المتن والهامش.. دراسة محمد علي إبراهيم

أو وضعت حجرا ثقيلا داخل بلوزتها ، والقت بنفسها فى النيل ، كما جاء فى الرواية.

والآن أفضى بكل ما يرد على خاطرى من افكار، أذكر كل شىء ، بغير ان أختار أو أنتقى، حتى لو بدت لى بعض الأفكار غير مستحبة أو غير منطقية، أو لاقيمة لها ، أو لا علاقة لها أصلا بالموضوع.

وضع الطبيب نظارته أمامه – وتفحص وجهى جيدا – ثم أخذ يخط بعض الكلمات البسيطة على الورق ، وانا أتابعه من خلف نظارتى الطبية.

لا يحدث أننى أرغب فى شىء..

ولكنه الآخر هو الذى يرغب من خلالى!

أشعر أننى نسخة بالكربون.

أشبه صورة باهتة لآخر يشبهنى، لا أعرفه!

ولكنه يوحى لى برغباته..

وهو الذى يتحكم فى أهوائى، وانا أعتقد أننى حرة فى اختياراتى..

وللأسف اكتشفت أخيرا أنها حرية كاذبة، أو على الأقل خادعة.

وضع الطبيب القلم من يده، وأخذ يفرك كفيه كى يعيد الدفء إليهما، بعد الساعات الطويلة التى قضاها معى، وهو يسمع، وانا أتحدث، ثم مال بجزعه على وجهى وقال: مدام ميرام..

منذ متى، وهذا الإحساس يطاردك؟

ترددت قليلا ، وانا أشير له إلى اسمى فى البطاقة، ولكنه تجاهل إشارتى، وحثنى على مواصلة الحديث.

اقرأ أيضًا: قصة المخملية الحمراء Red Velvet للأديبة د. جهاد جمال السيسي

أشعر أننى أشبه ( دون كيخوتى ) وهو ينتحل شخصية ( أماديس ) البطل ، ويحاول أن يحارب العمالقة ، أو وهو راكبا فرسه ، ويشهر أسلحته الصدئة فى وجوه أعداء وهميين ، ولا يعترف بهزيمته أو جنونة