بقلم / أحمد حنفي 
” هنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها ” هكذا تحدث الإسكندر الأكبر عندما وقعت عينه على قرية “راقودة” ، تلك القرية الصغيرة التي تسكن بأحضان البحر ، و ما لبث أن فرغ من كلامه حتى أمر مهندسه “دينوقراطيس” بالشروع في تشييدها ، هكذا بدأت الإسكندرية , قصة حبٍ من النظرة الأولى أوقعت الملك الشاب في غرامها و من خلفه كل من ولد أو سكن أو مرَّ بها منذ ذلك الحين.
و توافرت في الإسكندرية ـ منذ عهدٍ مبكرٍـ عبقرية المكان , فكانت القنطرة التي عبرت منها إلينا الثقافة اليونانية بكل إرثها الفلسفي و الفني و العلمي و امتزج ذلك الإرث بالحكمة المصرية القديمة فتفاعلا في رقيٍّ شديدٍ و أنتجا حضارةً جديدةً تفرَّدت بها الإسكندرية عن سائر المدن المصرية و اليونانية ما لبثت طويلاً لتختمر في عقول مفكريها و فلاسفتها و علمائها و فنانيها حتى فاضت بنورها و بصيرتها فصارت البوابة التي صدَّرت العلوم و الفنون ليس لبلاد اليونان فحسب و لكن للعالم بأسره.
إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجاً فارقاً و فريداً بين حضارات العالم ؛ فلم ينشأ بها صراعاً يذكر بين حضارة الوافد الفاتح و بين حضارة المقيم , لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً و لم يرفض السكندريون الآخر , بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية , و كان للأدب ـ و الشعر خاصةً ـ نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن “الإبيجراما” كأحد فنون الشعر لديهم , إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم “كاليماخوس” و الذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخراً من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال “هوميروس”.
و يؤكد “ثيوكريتس” على استقلالية الإسكندرية الثقافية و رؤيتها الجديدة التي تبثها في ضمير الإنسانية و ذلك حين ثار على قواعد الوزن الشعري و التي كانت تقتضي وزناً معيناً لكلِّ غرضٍ شعريٍّ , و آثر أن يستخدم الوزن السداسي في معظم قصائده الرعوية , و قد عرفت الساحة الشعرية السكندرية في عصرها الهيليني القصائد المطوَّلة ـ الملاحم ـ و لعلَّ أشهرها ملحمة “أبوللونيوس” الشهيرة “الأرجونوتيكا” أو “بحارة الأرجو” , “و التي يعتقد بعض النقاد أنها الأصل الذي خرج منه نصف الأدب الحديث , فليس القدر هو الذي يحرك الأحداث فيها كما كان الحال في ملاحم هوميروس , و إنما روح المغامرة , أي الإنسان” [ 1 ]
و هذا يدلُّ على مدى النضج الذي صدر منه “ثيوكريتس” ؛ ذلك أنه رفض أن يكون الإنسان لعبةً بيد القدر يحركها كيفما يشاء لكنه رأى أنَّ الإنسان هو من يصنع مصيره أو على الأقل يتحمل مسئولية اختياراته.
هكذا كان شعراء الإسكندرية منذُ ألفيِّ عام , لم يكونوا مقلِّدين و إنما أعادوا إنتاج و تجديد الشعر اليوناني و من ثَمَّ إعادة تصديره للتراث الإنساني من جديد , “فمن المعروف أنَّ الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس و أوفيد” [ 2 ]
و إذا ما تجاوزنا تلك الحقبة بكلِّ زخمها و ازدهارها و ريادتها و قدمنا إلى الإسكندرية الإسلامية نلتمس شعراءها بين شوارعها الجميلة و التي مازالت محتفظة بتخطيط “دينوقراطيس” لها مع تناغم عجيب ببناياتها المتعددة ذات الطابع الإسلامي من دور و قصور و حمامات و بساتين و أحياءٍ جديدةٍ نشأت لتستوعب الوافدين من العرب الفاتحين من قبائل لخم و جذام و التي استوطنت ـ و مازالت ـ غرب الإسكندرية ، ذلك التناغم لم تفسده العمارة الرومانية التي توسَّطت الحقبتين اليونانية و الإسلامية ، حتى أضحت شوارعها متحفاً مفتوحاً تقف منارتها ـ إحدى عجائب الدنيا ـ حارساً على كلِّ ذلك و شاهداً على مجدٍ يضرب بجذوره في الماضي.
ليكون موعدنا مع القرن السادس الهجري ؛ فلم يكن مقدَّراً للإسكندرية أن ينبغ بها شاعرٌ عربيٌّ من أبنائها و يذيع صيته ليملأ كلَّ أرجاء مصر قبل ذلك القرن , و الذي بذلت الدولة الفاطمية فيه كلَّ غالٍ و ثمينٍ من أجل بناء دولةٍ تنافس العباسيين في الترف و الأبهة ، يقول “جوستاف لوبون” في كتابه حضارة العرب : “يتصف عصر الفاطميين , الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي ، بنضج الفنون و ما تؤدي إليه الفنون من الصناعات ، و بارت القاهرة بغداد في الفنون … و زاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد … و كان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف و بناء القصور” [ 3 ]
و كان للإسكندرية نصيبها من ذلك الترف مما عمَّق تراثها المعماري من تشييدٍ للمساجد و المدارس و التي عملت بدورها على تعميق ثقافة أبنائها ؛ إذ “كانت المساجد مراكز فكرية , فالجامع الجيوشي كان مركزاً هاماً من مراكز الفكر بالثغر , تصدَّر به أكبر العلماء لتدريس الفقه و القراءات و النحو و غير ذلك” [ 4 ]
و ساعدت هذه البيئة العلمية النشطة في الإسكندرية على إقامة حركةٍ شعريةٍ بالثغر حيث “كانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة” [ 5 ]
و قد أشار د. شوقي ضيف إلى أنَّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة شعبية عامة تُلقى في المساجد ، و كان للشعراء فيها حلقات أتاحت لشباب العامة المشاركة في الشعر و غير ذلك من العلوم. [ 6 ]
فساعدت هذه النهضة الثقافية على انتشار التعليم و ظهور طبقة من العلماء و الأدباء و المشتغلين بالفلسفة أعطت الإسكندرية قوتها الثقافية التي ساعدت على تشكيل وعي أبنائها[ 7 ] فلم يكن عجيباً إذن أن نرى شاعراً حداداً مثل “ظافر الحداد السكندري” (ت: 529هـ) أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية و حتى عصر النهضة بلا منازعٍ ، و الذي راح يتردد على مجالس الأدباء و حلقات العلماء “و أكبَّ الصبيُّ على حفظ الشعر و كانت له ملكة خصبة ، سوَّت منه شاعراً كان يلفت أقرانه ، كما لفت كثيرين من شعراء الإسكندرية” [ 8 ]
و لم تشارك البيئة الثقافية المزدهرة في الإسكندرية بتكوين ثقافة ظافر فحسب بل ساهمت أيضاً في ذيوع صيته حيث كان والي الإسكندرية “ابن ظَفر” يفتح بابه لكلِّ النوابغ من الشعراء و الكتَّاب , و بالرغم من ذلك فلم يدخل ظافر قصر الوالي في بادئ الأمر كشاعرٍ و إنما كحدادٍ استطاعت بديهته و حسن ارتجاله أن تخرجه من القصر شاعراً ذائع الصيت.[ 9 ]
و الإسكندرية تتغلغل داخل نسيج و تكوين ظافر الحداد , و حنينه إليها لا ينقطع , فقد اضطرته مطالب العيش و الشهرة لأن يترك الإسكندرية بلده و يستقر بالفسطاط إلى جوار ممدوحه الأشهر “الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي” و كان يظن أن طلب الشهرة و الجاه و المال سينسيه وطنه فما جنى سوى العذاب و الألم و الحسرة من فراق بلده رغم كل ما حقق ، فراح يبث نداءه لكلِّ ما في الإسكندرية في أشعاره ليسلي النفس بذكريات الصبا ، يقول مخاطباً خِلَّيه: [ 10 ]
أخلَّاي  بالثغر دام  الفراقُ      و لازمني أسفٌ و اشتياقُ
تصبَّرت عنكم على حالتينِ    أسى يتلظَّى و دمعٌ يراقُ
و يستبدُّ به الشوق للعودة لشاطئ الإسكندرية ، فيخاطبه قائلاً: [ 11 ]
يا ساحل الثغر كم أنأى و أغتربُ       أما إليك مدى الأيَّام مُنقلبُ
إنَّ هذا الـنَّأي و ذاك الاغتراب هما ما دفعاه لتذكر عشيَّاته على رمال الثغر: [ 12 ]
أكثبان رمل الظاهريَّـة هل إلى       عشيَّاتك المستحسنات سبيلُ
ها هو البحر يتجلَّى مسيطراً على ذاكرته ، فتذكره للإسكندرية مرتبطٌ ببحرها الساحر سمتها المائزة على مرِّ العصورِ ، و ربما أطلَّت الإسكندرية بعمائرها و مساجدها و منارتها في إحدى مقطوعاته مستثيرة لمخيلته الإبداعية محفزة خياله المنتج ، يقول: [ 13 ]
تضئ بها  المساجد فهى تزهو            بياضاً مثل ما  تزهو الكعابُ
تجاورها   منارتها..  و  فيها            و في فانوسها  عجبٌ عجابُ
فتاةٌ   غادةٌ    بإزاء    شيخٍ             قصيرٍ ، طال  بينهما  العتابُ
سقى الله السواري بالسواري           و درَّت  في  مذاهبها  الذهابُ
فهذه المساجد البيضاء الزاهية بمآذنها تشبه الفتيات الكعاب الحسان و كأنَّ المئذنة شيخٌ قصيرٌ تعاتبه الغادة الحسناء / منارة الإسكندرية ، و هي صورةٌ مفعمةٌ بالحيوية و الإيحاء فقد فطن ظافر الحداد منذ تسعة قرون إلى ذلك الأثر السحري لمدينتنا الإسكندرية التي تمنح الحياة لكلِّ ما عليها و تدثره بنبضها المستمد من موج البحر.
إنَّ ظافراً في أبياته السابقة يتخلى عن صوره التقريرية المسيطرة على معظم قصائد ديوانه ، و يستبدلها بتلك الصورة الإيحائية الدافئة و التي عكست ما يدور بقلبه ، فما هو غير ذلك الشيخ الذي تعاتبه غادته الحسناء / الإسكندرية لطول بعده عنها . إنَّ غربته عن وطنه كانت معيناً متفجراً لطاقاته الإبداعية .. إنهما يتعاتبان .. و لسان حالهما يقول .. متى نلتقي؟

و يرتبط البحر عند ظافر بموقف آخر ، ألا و هو تذكر أيامه مع أصدقائه حتى لتعد الليلة الواحدة بخليج الإسكندرية بليالي العمر كله ، و ما كان يدور بينه و بين رفاقه من حديث ترق له الصخور طرباً ، يقول: [ 14 ]

فيا  دهرُ  ألَّا  كان  ليليَ  كلهُ        كليلةِ  شرقيِّ  الخليج  من  الثغرِ
فيا ليلة ماذا مضى تحت جُنحِها        من الــمُلَحِ اللاتي تجلُّ عن القدرِ
حديثاً لو انَّ الصخرَ باشر بعضَه       لأرقصَ من إطرابهِ جَلمدَ الصَّخرِ
و ظلَّ ظافر الحداد ينسج على ذات المنوال لم يترك شيئاً في الإسكندرية إلا و قاله “حتى لنشعر بأنَّ الإسكندرية قد صارت عنده لوحة من قلب الطبيعة بكامل مفرداتها و عناصرها و جزئياتها و هو يعزف على هذا النغم بكلِّ أدواته و ألفاظه و صوره و موسيقاه ، عاكساً ولهه اللا محدود لهذا الثغر الآمن” [ 15 ]
و كان شعراء الإسكندرية في العصر الإسلامي و الذين نبغوا في الشعر كثيرون ، منهم “ابن قلاقس” الشاعر الرحالة الذي عشق البحر و طوَّف في أرجائه شمالاً و جنوباً ما بين صقلية و اليمن و اتصل بالخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين و عندما بارت سوق الشعر بمصر ارتحل خارجها و قضى نحبه و هو مازال في الخامسة و الثلاثين تاركاً ديواناً بثَّ في أرجائه حديثه عن الإسكندرية و البحر و منارتها.
كما مكث بها من غير أبنائها الكثيرون فمنهم “أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي” ــ صاحب الرسالة المصرية ــ ، و الإمام البوصيري ــ صاحب البردة عين عيون المديح النبوي ــ و بها توفي و دُفن ، و “تقيَّة الصورية” ، و غيرهم العديد و العديد ، منهم مَن هم مِن أبنائها و منهم مَن وفد عليها و استقرَّ بها حيناً و خلَّف لنا شعراً ينتمي إليها ؛ فشعر الإسكندرية “يتجاوز شعراءها الذين ينتمون لها إلى غيرهم من الشعراء الذين تغنوا بالإسكندرية دون أن يكونوا سكندريين ، و حتى دون أن يكونوا مصريين” [ 16 ]
و هذا الحد للشعر السكندري ــ تراث الإسكندرية الشعري ــ و الذي وضعه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مقبولٌ إلى درجةٍ بعيدة ؛ فالإسكندرية كانت دوماً محط أنظار الشعراء يأتوها للاستجمام أو الاستشفاء أو طلباً للعزلة عن واقعهم للتواصل مع أعمق نقطةٍ بوجدانهم بحثاً عن حالةٍ إبداعية ذات طابعٍ مستقل ، فليس من المتصور بمكانٍ ألَّا نضم بيتي شوقي الآتيين للشعر السكندري ..
إسكندريــــــةُ  يا   عروس  الماءِ           و خميلة الحكماء و الشعراءِ
نشأت بشاطئك الفنون جميلةٌ          و ترعرعت بسمائك الزهراءِ
و يقول في موضعٍ آخر عن شاطئها:
شاطئٌ مثل رُقعةِ الخلدِ حُسناً       و أديمِ الشبابِ طيباً و بِشرا
و ها هو حيّ المكس ــ بغرب الإسكندرية ــ شاهد على أيامٍ قضاها شوقي ــ أمير الشعراء ــ على شاطئه متأملاً ، ينهم من سحره و زفيره ، الأمر نفسه الذي حذاه مطران خليل مطران أحد أهم رموز الرومانسية العربية.
و يردف حجازي بقوله:

“الإسكندرية لم تكن لكلِّ شعرائها وطناً أو مسقط رأس لكنها كانت بالنسبة لهم حلماً أو فكرة” [ 17 ]

و ما كاد يطلُّ علينا العصر الحديث حتى ازدادت أعداد شعراء الإسكندرية و ازدانت بهم و أخذ التراث الشعري السكندري في النمو سواء كان شعراً عربياً أم زجلاً أم شعراً مكتوباً بلغاتٍ أخرى كاليونانية و الإيطالية.
و بمناسبة الزجل فإنه ارتبط باسمينِ سكندريينِ إذا ما ذُكر فن الزجل ذُكرا ؛ “عبد الله النديم” (ت: 1896 ) ــ شاعر و خطيب الثورة العرابية ــ و المولود بحيّ كفر عشري بغرب الإسكندرية ، و “محمود بيرم التونسي” (ت: 1961 ) المولود بحيّ السيَّالة ببحري ، و هما أشهر من أن يعرَّفا ، إلَّا أنَّ لبيرم التونسي قصيدة شهيرة لا تخلو من خفة ظل السكندري و هي قصيدته “المجلس البلدي” و التي تطايرت في الآفاق حين نشرها لأول مرةٍ بجريدة “الأهالي” السكندرية بدون توقيعٍ “فما لبثت أن انتشرت في أنحاء المدينة و حفظها الناس متفكِّهين ، و مطلعها:
يا بائع الفجلِ بالمليم واحدةً       كم للعيالِ و كم للمجلس البلدي ؟” [ 18 ]
فليس شعر الإسكندرية هو الذي يصف شوارعها و بحرها و أهلها فحسب ، بل هو ذلك الشعر الذي يغوص في مشكلاتها أيضاً ، و يشاطرها أتراحها قبل أفراحها.
و إذا ما انتقلنا لشاعرٍ آخر وفد إليها من اللاذقية مراهقاً لم يتجاوز السبعة عشر عاماً و لزمها مدَّةً زادت عن الأربعين عاماً و دُفن بها فإننا قطعاً نتحدَّثُ عن “خليل شيبوب”(ت: 1951 ) الأخ الأكبر للكاتب “صدِّيق شيبوب” المتوفي بالإسكندرية أيضاً عام1965.
و انطبع “خليل شيبوب” بالطابع السكندريِّ الذي عمَّق وجدانه و جعل عبارته أكثر موسيقيَّة من عبارة مطران ــ أستاذه و صديقه [ 19 ]
و يُعدُّ “شيبوب” حلقةً هامةً من حلقات الشعر السكندري في العصر الحديث ؛ ذلك أنَّه أفاد من القديم سيما من شعر المتنبي و أبي تمَّام و البحتري و تحمَّس للجديد الذي أتى به مطران متأثراً بالشعر الأوروبي ، خاصةً و أنَّ “شيبوب” كان مُطَّلعاً جيداً على الأدبين اللاتيني ــ الفرنسي منه على وجه الخصوص ــ و السكسوني “و استطاع أن يُلبس الفكرة الغربية رداءً عربياً فلا تجد في الرداء عيباً و لا في المرتدي غرابةً” [ 20 ]
و له في الإسكندرية: [ 21 ]
خُطَّابُ حُسنكِ يا  إسكندريةُ ما            زالوا و ما برحوا يوم الحفاظ همُ
توحَّدوا  فيك  حُبَّاً  إنَّ  طابعَهم             إسكندريٌّ فلا عربٌ و لا عجمُ
و الحسنُ مازال فرداً  فيك جوهره            و جوهر الحُسنِ فردٌ ليس ينقسمُ
و لأنَّ “شيبوب” من هؤلاء الخطَّابِ فقد منح نفسه الطابعَ السكندريَّ جاعلاً هويته الشامية في مرتبةٍ لاحقةٍ عليها ، و مثَّل “شيبوب” همزة الوصل بين ما هو أصيل و ما هو حداثي مما يجعلنا نعدَّه مفصلاً حيوياً من مفاصل الشعر السكندري الذي كان ــ و مازال ــ زخِماً بعدة حضارات و عدة لغات و عدة عرقيات تتضافر جميعها لتنتج شعراً يتسم بطبائعه المغايرة المتسق مع الطبيعة الكوزموبوليتانية للإسكندرية.
و بغرب الإسكندرية ــ تحديداً بحيِّ المكس ــ قِبلة الشعراء وقتها ، وُلِدَ “عثمان حلمي” ( 1894 – 1962 ) قبل أن ينتقل إلى حيِّ كفر عشري ليقضي فيه بقيَّة حياته ، و لم يحز شهرةً واسعةً لكنه كان من أهم شعراء الإسكندرية في الفترة ما بين ثلاثينيات و خمسينات القرن المنصرم ، و كان مؤسس جماعة “شعراء الشلال” و شارك في تأسيس جماعة “نشر الثقافة السكندرية” و التي ظلَّ بها حتى وفاته ما بين عضواً عاملاً و رئيساً و محاضراً و شاعراً.
لم ينس “عثمان حلمي” الحيَّ الذي ولِد به و لا ما تركه في نفسه من براءةٍ و مرحٍ مستمدان من انطلاق البحر و تدفق أمواجه ، يقول: [ 22 ]
في المكسِ في ظلالها  جلسنا          و نحن  أطفالٌ بكلِّ  مغنى
نجهلُ ما الدنيا ، و ما علمنا          من أمرها غير السرور يُجنى
نطربُ من لا شئ إن  طربنا          و نملأُ  الجوَّ  إذا  ضحكنا
و للمدينة الشاعرة أسبقيتها في فنونٍ أُخرى كالمسرح و السنما و الصحافة ، الأمر الذي انطبع على أدبائها و منهم “عثمان حلمي” الذي ألَّف ست مسرحياتٍ مزج فيهنَّ بين الشعر و النثر لم تُطبع منها في حياته سوى مسرحية “الظاهر برقوق” و ذلك في العام الذي توفِّى فيه.
و علاقة الشاعر السكندريِّ بالبحر علاقة صداقةٍ قديمةٍ تنشأ منذ الوهلة التي يتعرفان فيها على بعضهما حتى يستحيل البحر مستودعاً لأسرار الشاعر و معزياً له.
يقول “عبد الحميد السنوسي” ــ أحد شعراء جماعة الشلال: [ 23 ]
وقفتُ حيالَ اليمِ وقفةَ ثائرِ          له في  ترانيم العباب  عزاءُ
أُعالج همّاً  بين جنبيِّ  ثاوياً           و ليس لمقروحِ الفؤادِ دواءُ
و لا مانع أن يستعير الشاعر من البحر بعض مفردات بيئته ــ كنتيجةٍ مباشرةٍ لتلك العلاقة الحميمة ــ بل تستحيل الحياة بحراً و الشاعر سفينة تمخر فيها ، يقول “السنوسي”: [ 24 ]
أعيش  كأنِّي  في  الحياةِ  سفينةٌ        تكالبها  الأمواجُ و اليمُّ  زاخرُ
أئنُّ كما أَنَّ الجريحُ  من الصَّدى        فتهزأُ  بي  الأيَّامُ  و هْي  ثوائرُ
و الإسكندريةُ غنيةٌ بأدبائها أثَّرت فيهم ــ و لـمَّا تزل ــ و نراها مبثوثةً في كتاباتهم شعراً و نثراً تحتضن أحرفهم و تحنو عليهم ، فتلك الحقبة التي عاش فيها “بيرم” و “شيبوب” و “حلمي” و “السنوسي” شهدت الجم الغفير من الشعراء المتميزين أمثال “نقولا فياض” ( ت: 1959 ) – “وردة اليازجي” ( ت: 1924 ) – “عبد الرحمن شكري” ( ت: 1958 ) – “زكريا جزارين” ( ت: 1955 ) – “حسن فهمي” ( ت: 1930 ) – “محمد غالب” ( ت: 1950 ) – “فخري أبو السعود” ( ت: 1940 ) – ” عبد اللطيف النشار” – ” محمد مفيد الشوباشي” – “أحمد راسم” ( ت: 1958 ) – “منيرة توفيق” ( ت: 1965 ).
كذلك العديد من الشعراء غير العربالذين تنتمي أشعارهم لتراث الإسكندرية الشعري ، نذكر “قنسطنطين كفافيس” الشاعر اليوناني العالمي – “أونجاريتي” الأب الشرعي للشعر الإيطالي الحديث – “مارينيتي” رائد المدرسة المستقبلية في الشعر و النثر – “راؤول ولكنسون” – “هنري تويل” – “ألك سكوفي” – “رنيه تاسو” .. و غيرهم العديد.
و لعلَّه من الضروري أن نتطلَّع إلى معاصرينا من شعراء (الفصحى و العاميَّة) لنرى كيف تجلَّى البحرُ بوجدانهم و إلى أيِّ حدٍّ تطور الشعر السكندري ، و الحقيقة أنَّ البحر اتخذ مساحةً كبيرة في أشعارهم ، و لِمَ لا و هو الصديق الذي نطمئنُّ له و نشكو إليه ، و هو الصبور الذي يتركنا نعبث به ، و هو الحكيم ذو النبؤات التي يرسلها كإشاراتٍ لأبنائه ، و هو الذي يشي بأسرارنا و يكشفنا حين نريد الاختباء ، و هو الشاهد على الحب و على الفراق ، و هو المخلِّصُ حين تضيق بنا صدور الأصدقاء .. للبحر تجليَّاتٌ إذن في شعرنا السكندريِّ المعاصرِ ..
سنحاول الاقتراب منها مراعين الاختصار قدر الإمكان غير مدَّعين أن تلك التجليات هي كل أوجه البحر بشعر المعاصرين إنما هي بعضها فحسب.

 1- البحر الصديق: 

 
اتجه المعاصرون ــ بشدَّة ــ نحو البحر باعتباره صديقاً .. نُلقي له بأسرارنا و نفيض له بهمومنا .. فالبحر يجيد الاستماع للألم .. فهو الصديق الذي فرَّ إليه “أحمد الفلو” ــ كمنفى اختياري ــ يبثُّ إليه شكواه و يُلقي لموجه قطفاً من دموعه ــ و كأنه يؤسس لأسطورته بأنَّ ماءَ البحرِ صدرَ من دموعِ شعرائه و أبنائه ــ فمَن غير البحر إذن يستمع ..
“بينما
كنتُ على أوَّلِ نفيٍ
أُطعمُ الوقتَ .. حكاياتٍ قديمه
عن فتىً ..
فرَّ إلى البحرِ ..
و ما بالساحلِ القاني سوى نَورسةٍ ..
قد آذرت قلبَ الفتى ..
حين رمى للموجِ .. قطفاً من دموعٍ ..
و ركاماً من ذهولْ” [ 25 ]
فالبحر ببيئته أصدقاءٌ للشاعر ، و ما تلك النورسة إلَّا استجابة من البحر لمواساته. انقر هنا https://www.arabwinners.com. و علاقة السكندريِّ بالبحر ليست على وتيرةٍ واحدةٍ ؛ فربما يغضب السكندريُّ من البحر / مستودع ذكرياته مع حبيبته ، فيراه حين يُذَكِّره بها بعد أن فقدها كالذي ينكأ الجرحَ و ينبش الذكرياتِ ، و هو ما جعل “أحمد كامل” يثور عليه ، فما هكذا يكون الأصدقاء ، يقول في قصيدته “بنِّيِّة وشوش” ..
“بحر اتعلم ينهش جرحه ،
و يهد قصوره الرملة و يحلف .. إنه برئ
يتحنَّى ..
من دم بكارة طيبته
رغم إنه امبارح .. كان صاحبه” [ 26 ]
فالبحرُ ذاكرةً موازيةً للشاعرِ ، بل وصل إلى أن يكون صفحة العمر كما عند الشاعر الكبير “فؤاد طمان” ..
“زرقةُ البحرِ صفحةُ عمريَ ..
فيها البداية و المنتهى” [ 27 ]
إنِّ تلك القصيدة ــ “البحر” ــ تلخص علاقة السكندريِّ به ، فهو مستودع أسراره و ذكرياته حتى استحال كتاب حياته و استحال الشاعر فيه عارفاً ببيئته ..
“انظروا كيف هلَّلَ سربُ النوارسِ لـمَّا رآني ..
و كيف احتفى بيَ فوق الزَّبَدْ ..
فأنا مثلُه صاحبُ الموجِ ..
أعرفُ أسرارَه الأزلية ..” [ 28 ]
إنَّه أحد نوارسه المؤتمنين على سرِّه ..
“إنِّي ــ كأصحابيَ الشعراءِ ــ فتىً
أرسلته الرياحُ العتيقةُ للموجِ ..
و ائتمنتهُ على صفحات الأبدْ” [ 29 ]
بل أصبح الشاعرُ رمزاً لكلِّ غريبٍ مرَّ بالبحرِ [ 30 ] و وقع في عشقه الأبدي ..
“أنا طيفُ هذا الغريب الذي يسكنُ البحرَ
بردته فوق رمل الشواطئِ عاطرةٌ ..
و على أسقف المدن الأزليةِ راياتُهُ ..” [ 31 ]
ربما في إشارةٍ للبوصيري الشاعر و بردته و مدفنه أمام شاطئ الإسكندرية بمسجده المعروف ، فالبحرُ ألَّفَ بين شعرائه ، إنَّ تلك العلاقة التي يطرحها “فؤاد طمان” بالبحر إنما هي علاقةٌ قائمةٌ على الدهشةِ في كُلِّ مرةٍ بحثاً عن الحلم ..
“لم يزل ليَ من دهشةِ الطفلِ حظٌّ ..
و ليست تُفارقني دهشتي و أنا ألجُ الموجَ كل صباحٍ ..
و من دون جدوى أغوصُ .. أغوصُ ..
و تمضي السنونَ و لا أجدُ اللؤلؤه
لا يفارقنى الحُلمُ” [ 32 ]
و هكذا أصبح كلُّ ما في البحر وقوداً لجذوة الشعرِ بقلبه ، حين يهمُّ إليه تهمُّ به ربَّةُ الشعرِ الخالدة ..
“المناراتُ تعويذتي الواعده ..
و اخضرارُ الصخورِ على مطلع البحرِ
يوقظُ قلبيَ .. يُشعلُ جذوتيَ الخامده ..
عزفَ المدُّ و الجزرُ تحت نوافذ بيتي القديمِ ..
ففاض الحنينُ .. و همَّت بيَ الرَّبَّةُ الخالده ..” [ 33 ]
هذه العلاقة القائمة على الدهشة أودعت بقلبه الغرام ، مُفصِّلاً ذلك في الماء .. و الرمل .. و الصدف .. و الشاطئ .. و كأنَّه يتغزَّل بمفاتنه كلٌّ على حِدة على عادةِ الشاعر الصبِّ ..
“مُغرمٌ أنا بالماء .. و الرملِ ..
و الصدف المتناثرِ في شاطئ البدءِ” [ 34 ]
ذلك التجلِّي للبحر كصديقٍ لا يعرفه إلَّا السكندري ، إنها خبرةٌ يمنحها لأبنائه فقط ، و على ما سبق فنظرة الشاعر السكندريّ له مختلفةٌ بالضرورة عن غيره من الشعراء الغرباء الذين لا يتجلى البحر لديهم كصديقٍ ، و كيف يصادقونه و هم لا يطمئنون إليه ..
“- هل تريد قليلاً من البحرِ؟
– إنَّ الجنوبيَّ لا يطمئنُّ إلى اثنين يا سيدي ..
البحرُ – و المرأةُ الكاذبه” [ 35 ]
هكذا يرى “أمل دنقل” ــ الجنوبيُّ ــ البحرَ ، و كيف يطمئنُّ له و خبرته عنه سلبية[ 36 ] يرى فيه سفيراً للموتِ و الفقد.

و البحر صديقٌ صبورٌ ، لا يدهم أصدقاءه ــ الصيادين ــ بالغرق بل يترك سنانيرهم ترشق في وجهه مكتفياً بخداعهم ، في صورةٍ تفرَّد بها شاعر العامية “أحمد عواد” ..

“كان البحر لسه قاعد يلخبط ..
السمك و يعيد حساباته
مع محاره واحده عنيده
رافضة تطلع
على الرمله فى مظاهره ضده
سنانير الخداع
اللى بتسرق سمك البحر
كانت كل السنانير مرشوقه ف وش البحر
شكل سادى بيتكرر كل يوم
وكان البحر لازم يعترف
بكل اللى ف قلبه
وهو متأكد
إن لحظتها حيحكموا عليه بالموت
فمكانش قدامه حل
غير إنه يلخبط السمك
فى محاولة لخداع السنانير المرشوقه فى وشه
ومعلقاه فى بوصة بتنتهى بالنار
مع إن ف مقدرته .. يثور

ويهاجم الجميع بالغرق” [ 37 ]

و ما البحر إلا معادلاً للذات التي تسعى لتعمية الآخر و خداعه للفكاك من شَرَكِه مستمدةً من البحر كل معانٍ تسلحها بالتحمل من صبرٍ و هدوءٍ حيناً و إعادةِ حساباتٍ و مراوغةٍ حيناً آخر متجنباً الثورة ، فالبحر يتولَّى مُريديه و يصبر ، لا يترك مدينته و يرحل كما قال الشاعر “محمد إبراهيم أبو سنة” في قصيدته “الإسكندرية” ، يقول:

“ها هنا الإسكندريةُ لغزٌ
تتمادى العصورُ في تفسيرهِ
من قديمٍ تزوَّجت البحرُ ..
و عاشت .. رقصةً نادرة الإيقاعِ وسط هديرهِ
كُلَّما تعب البحرُ جاء إليها

ليراها جسداً دافئاً في سريره”

أمَّا نحن السكندريون فنرى البحر المواطن الأوَّل الذي سكن مدينتنا منذ الأزل و لم يغادرها .. و سيظل.

 2- البحر مُرسلٌ ( مُتنبِّئ ): 

لم يعد البحر في نظر شعرائه السكندريين ذلك الحكيم الصامت الذي نودعه أسرارنا و آلامنا فحسب ، بل يلقي إليهم برسائله أيضاً ، لتصبح دالة البحر عند “أحمد الفلو” من مجرد اسمٍ محضٍ يؤشر فقط يمكن الاستعاضة عنه بضمير ، إلى دالةٍ سيميوطيقية تؤشر و تعني ..

“ما الذي أودعك البحرُ مساءً
حينَ آويت إلى الماءِ ..

غدا في الروحِ عمقاً من أنين ؟” [ 38 ]

البحر لم يعد مستقبلاً فقط بل صار مرسلاً أيضاً ، و هكذا فالعلاقة الآن تسير في الاتجاهين ، فترى ماذا أودع البحر بقلبه ليترك ذلك الأثر في الروح ( عمقاً من أنين )؟!

لعلها ذكرياته التي يستعيدها معه ليلاً “الوجه الذي قد دثَّرته النورسات” [ 39 ] ، فالبحر صديق ــ رغم ما يمارسه من تسلُّطٍ على الذاكرة ــ و هو العلاج أيضاً ..

“لي أن أدهمَ الموجَ ..
على صهوة جُرحٍ ..

موغلٍ .. صوب الذهول” [ 40 ]

ليعيد الكرَّة بالبوح لذلك الصديق الأزليّ . و لا يتوقف البحر عن الإرسال ، و هذه المرَّة لا يرسل ذكرى للشاعر أسرَّ له بها و إنما أرسل بنبوءةٍ إلى الجميع سجلها الشاعر “محمود عبد الصمد زكريا” في إبيجراما موجزةٍ و بلغةٍ تتماهى مع ما للنبوءاتِ من سمةٍ ، يقول ..

“كتب البحرُ
على ظهر المحارة
تضحكُ الشمسُ

لمن يدري البشارة” [ 41 ]

فهو يصوِّر البحرُ العارفُ ، المتنبئُ ، المبشِّرُ ، فهو المسنُّ الشابُ ، المجرِّبُ العالمُ ، تعلَّم من قِدمه ما لم نعلم ، القديمُ كالشمس التي لازمته خطواً بخطوٍ ، الممتلكُ لكلِّ ما فيه يكتب بموجه على محاراته رسالاتٍ يمنحها لأبنائه السكندريين ، إنها باختصارٍ .. خبرة الشاعر ببحره و معرفته ماذا يكتب و بمَ يُبشِّرُ.

 3- البحر يشي: 

لم يقف البحر لدى “أحمد الفلو” عند حدِّ نبش الذكريات كما فعل مع “أحمد كامل” ، بل راح يشي به و بماضيه و بمواقيته التي خبَّأها به ..

“ها هو البحرُ
يشي بي مرَّةً أُخرى ..
و يحكي .. عن مواقيتي التي خبَّأتها ..

في آخر الماءِ ..” [ 42 ]

إنَّه يش به ( لمن خلفها السِّرب ) .. ( للغيمِ ) .. يشي بلقاءاته السريِّة .. مُصرّاً على كشف الذات الشاعرة ، و بالرغم من ذلك فالشاعر لـمَّا يزل يبوح له:

“ها هو البحرُ يشي ..
لـمَّا يزل ..
بينا أنا .. أنداحُ في عُري الفصولْ

أجتلي البوحَ نديا” [ 43 ]

فليس غير البحر مُنعتقاً لروحه و خزانةً لأسراره . لنستمر إذن مع “الفلو” و وشاية البحر عليه ، ذلك البحر الذي أودع الأنين بقلبه [ 44 ]، و الذي وشى بجرحه ، و الذي أرسل طيورَه البيض تسقيه حزناً [ 45 ]، هو بحرٌ لا يؤتمن ، يقول في قصيدة “الخروج”: [ 46 ]

“قالت: اُخرجْ عليهنَّ ..
لم تنتبه ..

أنَّ مُتَّكأَ البحر لا يُؤتمنْ”

ليعيد “الفلو” توظيف دالة البحر ثانيةً في ضوء تلبُّس ذاته لرداء سيدنا “يوسف” ــ عليه السلام ــ بحادثة الغواية .. ليكون البحر إذن معادلاً لنساء المدينة ، و وشايته معادلاً لوشايتهم ، و غوايته رمزاً لغوايتهم ، لكنه يتساءل قائلاً:

“أتُرى .. إن خرجتَ فأكبرنَني
ثمَّ أرخين لي ياسمينَ العيونِ ..
ليغشى دمي مطراً
ملء كفَّيه وشوشةٌ من جنونٍ بهيّ ..
هل سأزرع في الورد دفئاً ..
يقايض صمتاً تبقَّى لديَّ ..
بنرجسةٍ سَتنصبُني فوق كلِّ شِفاهٍ ..

عناقيد وشمٍ نديّ ؟”

في ذلك التساؤل عقد “الفلو” موازنةً بين موج رغبتهنَّ و موج البحر ، فإن باح لهنَّ بسرِّه هل يكتمنه مقابل الدفء الذي أودعه إياهنَّ ..؟

إنه يرى المرأةَ كالبحرِ الذي يشي و بالرغم من ذلك مازال ( يجتلي البوح نديا ) لا يستطيع الفكاك من غوايتهما كالذي يدور في حلقةٍ ملؤها البوح و الوشاية.

 4- البحر و الحبيبة و الفراق ( البحر طللاً ): 

و لأنَّ البحر يشي كالمرأةِ فهو يشبهها ، ليس في الوشاية فحسب كما ظهر عند “الفلو” و لكن الشاعر “محمود إسماعيل” رأى أوجه تشابهٍ أخرى بين حبيبته و البحر ، يقول:

“حبيبتي ..
البحر زيِّك .. وقح
البحر زيِّك .. بتول

البحر زيِّك .. بوسته ملح ( أُجاج )” [ 47 ]

فالبحر المتلون بين قبحه و تبتُّله ، المتناقض بين عذوبةٍ يعده بها و ملوحةٍ يمنحها لشفتيه إنما يعكس لنا تلك العلاقة القائمة بين البحر و الشاعر و التي لا يستكين فيها البحر كظاهرةٍ طبيعية إنما يتخطَّى ذلك الدور متطلعاً لصراعٍ يكون فيه فاعلاً بين مدٍّ و جزر تماماً كحبيبته التي لا تستسلم.

و لم يغفل السكندريون عن البيئة الرومانسية للبحر ، فهو مُلتقى الأحبَّة و لذلك لم يجد “فؤاد طمان” حرجاً من دعوة حبيبته إليه ..

“تعالَي إلى شرفة البحرِ

كل صباحٍ” [ 48 ]

و لأنَّ البحر يعي ما الحبُّ فنراه يهيء نفسه لذلك اللقاء فيرسل عصافيره تشدو و يبعث أغنيات الهوى كخلفيَّةٍ موسيقيةٍ لذلك اللقاء الشفيف في مباركةٍ منه لتلك العلاقة ، يقول:

“تعالَي كما اعتدتِ للبحر كلَّ صباحٍ ،
لتشدوَ حولي العصافيرُ أكثرَ ..

يبعثُ لي البحرُ من أغنياتِ الهوى و الشموسِ الوضيئةِ” [ 49 ]

و كما كان البحر موعد الأحبَّة كان هو أيضاً الشاهد على اللقاء الأخير ، و هكذا تتحرك دالة البحر بين نقيضين “الحبُّ” تارة و “الفراق” تارة أخرى ؛ ربما لأن البحرَ يعني بوابةً للسفرِ و الاغتراب و أوَّل طريق الرحلة للسكندريِّ القديم ، يقول “فؤاد طمان” في قصيدته “البحار”: [ 50 ]

“قُلْ للجميلاتِ الوداعْ ..
فغداً نعودُ إلى السَّفينِ ..
العمرُ يجري !
قل نعودُ إلى السَّرابِ .. إلى الضَّياعْ !
ماذا نريد من البحار سوى الشواطئِ ..
ثم نُبحرُ .. ثم نرسُو ..

حائرَينِ العمرَ : ما بين المواني”

إنَّه يُخاطب رفيقاً له كعادة القدماء ــ أيَّاً كان ذاك الرَّفيقُ ــ قبل الوقوف على الطلل و استرجاع الذكريات و بذات الدرب سار “طمان” ليستحيل البحر طللاً و شاهداً على موعده الأخير مع حبيبته .. يقول: [ 51 ]

” قُـلْ للجميلات الوداعَ ..
فلستُ أقوى يا رفيقُ على الوقوفِ
أمامَ عينَي مَن تَملَّتني طويلاً ،
ثم أرسَلتِ الدموعَ ،

و نحنُ نضربُ عند بابِ البحرِ موعدَنا الأخيرَ”

 5- البحر مُخلِّصٌ: 

و يتجلَّي البحر كمخلِّصٍ للذات حين تخطئ ، إنها القدرة على التطهير التي يمتلكها و التي نرى أصداءها بموروثنا الشعبي الذي يرى في مائه طهراً من الشرور و السحر و إزالةً للكربِ و انعتاقاً من أدران النفسِ و تكدرها ، الأمر الذي تلقفه الشعراء من ثقافة بيئتهم و قدِّموه برؤيتهم الخاصة ، و قد أطلَّ “أحمد الفلو” من تلك الزاوية في قصيدته “هى و البحر”[ 52 ] فتلك الأنثى التي يدور النصُّ على لسانها تهمُّ أن تلج البحرَ لتطعمَ الموجَ بقاياها يخلصها البحر بطريقته بأن يرسل نوارسه البيض تسقيها حزناً ..

“همسَت:
إن جئت للبحر ..
تراني ..
أُطعمُ الموجَ بقايايَ ..

فتسقيني الطيورُ البيضُ حزنا”

و البحر بذلك لا يمارس ساديَّةً على من أتاه خطيّاً و لا وحشيَّةً في ردة الفعلِ و إنما التطهير يلزمه الألم ، تلك الأنثى التي أتته على هيئة بقايا إنسان تطلب من الشاعر ألَّا يدعها إذا جاء هو الآخر للبحر مثقلاً بوزره ، و كأنَّ إتيانه آليَّةً يتقنها السكندريون للتطهر ..

“فإذا ما جئت للبحرِ خطيا ..

لا تدعني ..”

فربما يولدان من جديدٍ على شواطئه . و يختلف رد فعل البحر على اختلاف السبب ؛ فكما أرسل طيوره البيض تسقي أنثى “الفلو” حزناً نراه يحنو على “آمال” التي ترى في البحر سلَّةً لهمومها إذا ضاقت بها الدنيا ، يقوا “أحمد كامل” في قصيدته “سوناتا .. البحر و آمال”: [ 53 ]

“غريبة .. وسط زمان مجنون
ما بين أيامها ورق كربون
تصحى من النوم
تفرد أحلامها شراع لليوم
و ترمي همومها وراها و تمشي لحد البحر
تفرَّغ باقي دموعها البايتة
و تحدف ..
مع موجة مسافرة بواقي الحزن ،
و تلبس وش جديد
من غير تجاعيد امبارح
و تداري ملامح .. بملامح

و تقابل يومها صافية القلب”

و على هذا فالبحر يمارس دوراً يوميّاً في مساعدة أبنائه للانفلات من قيود الحياة و وطأتها و رتابتها ، لكن ماذا لو استحكمت أمراض المجتمع علي الذات بالشكل الذي يستحيل عليها تحمُّله ؟! .. حينها لا يبقَ غير البحرِ ..

“و يخشَّ الليل
فــــ تروح للبحر و تشكيله
ياخدها البحر ما بين درعاته ،
و يمد إيديه
يمسح بكفوفه دموعها ،
و برقة يبوسها
فــــ ترمي دماغها ،
ما بين أحضان البحر ــ حبيبها ــ

و تروح في النوم”

و المشهد السابق لا يعني انتحاراً ؛ فالمحبُّ لا يسلب ، و إنما نجد بين أحضانه الدفء .. و نجد من يده ما يكفكف دمعاتنا .. و من رقَّته ما يجعلنا نستسلم لصدره .. إنه الأمان في العلاقة الذي نفتقده أحياناً و نلتمسه لديه دوماً .. إنها خبرة السكندريَّ ببحره.
 الهوامش 

** البحث منشور بكتاب المؤتمر السنوي لفرع ثقافة الإسكندرية و الذي انعقد بقصر ثقافة الشاطبي يوم الخميس 8 مايو 2014 و كان عنوان المؤتمر ( الإسكندرية ملهمة الأدباء )
[ 1 ] شعر الإسكندرية و شعراؤها ، أحمد عبد المعطي حجازي ، مقال نشر بجريدة الأهرام – العدد 43248 بتاريخ ( الأربعاء 25 من ربيع الأول 1426 ه – 4 مايو 2005 ) السنة 129
[ 2 ] السابق
[ 3 ] حضارة العرب ، غوستاف لوبون ، ترجمة: عادل زعيتر ص219 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000
[ 4 ] الحركة الفكرية و الأدبية في الإسكندرية في القرن السادس الهجري ، د. فوزي محمد أمين ص 45 ، دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية 2004
[ 5 ] عصر الدول و الإمارات ( مصر ) ، د. شوقي ضيف ص251 ، دار المعارف ، ط الثانية
[ 6 ] السابق ، راجع ص 251
[ 7 ] ظافر الحداد – أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية – ، أحمد محمد حنفي ، بحث مخطوط في انتظار الطبع
[ 8 ] عصر الدول و الإمارات ( مصر ) ، د. شوقي ضيف ص251
[ 9 ] راجع قصة ظافر الحداد مع ( ابن ظَفر ) والي الإسكندرية كاملةً في:
وفيات الأعيان ، لابن خلِّكان ج 2 ص 542 ، 543 & شذرات الذهب ، لابن العماد ج 4 ص 92 ، 93 & بدائع البدائه ، لعلي بن ظافر الأزدي ص 385 ، 386
[ 10 ] ديوان ظافر الحداد ، تحقيق: د. حسين نصار ، مكتبة مصر 1969 ص 238
[ 11 ] السابق ص 31
[ 12 ] السابق ص 251
[ 13 ] السابق ص 26
[ 14 ] السابق ص 147
[ 15 ] شعر الطبيعة في مصر في القرن السادس الهجري ، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة في الآداب من الطالب/ بهاء عبد الفتاح علي حسب الله ، المدرس المساعد بكلية الآداب – جامعة حلوان ، 2001 ، ص 197 ، 198
[ 16 ] شعر الإسكندرية و شعراؤها ، أحمد عبد المعطي حجازي
[ 17 ] السابق
[ 18 ] أعلام من الإسكندرية ، نقولا يوسف ج 2 ص 339 – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2001
[ 19 ] راجع كتاب “إسماعيل أدهم” عن ” خليل مطران”
[ 20 ] أعلام الإسكندرية ، نقولا يوسف ج 2 ص 356
[ 21 ] السابق ص 357
[ 22 ] السابق ص 359
[ 23 ] السابق ص 365
[ 24 ] السابق ص 366
[ 25 ] قصيدة “كلام الماء” من ديوان “وهرات” ، للشاعر أحمد الفلو – فرع ثقافة الإسكندرية ( سلسلة لآلئ سكندرية – 9 ) ، ط الأولى ، 2011 ص 9 ، 10
[ 26 ] ديوان “مشاهد من حدوتة عجوزة” ، للشاعر أحمد كامل ، ط الأولى ص 52
[ 27 ] أنشودة أورفيوس الأخيرة ( مختارات شعرية ) ، للشاعر فؤاد طمان – الهيئة العامة لقصور الثقافة ( سلسلة مختارات – 2 ) 2013 ، ص 147
[ 28 ] السابق ص 147
[ 29 ] السابق ص 148
[ 30 ] الشاعر “فؤاد طمان” مواليد محافظة الجيزة 1943 و درس بالإسكندرية و تخرج من كلية الحقوق عام 1965
[ 31 ] أنشودة أورفيوس الأخيرة ص 148
[ 32 ] السابق ص 149
[ 33 ] السابق ص 150
[ 34 ] السابق ص 150
[ 35 ] قصيدة الجنوبي ، ديوان “أوراق الغرفة 8” ، للشاعر أمل دنقل – الأعمال الكاملة طبعة مدبولي ، ط الثانية ، 2005 ، ص 393
[ 36 ] راجع قصيدة “أجازة فوق شاطئ البحر” لأمل دنقل ص 129 – الأعمال الكاملة
[ 37 ] قصيدة “شكل سادي بيتكرر كل يوم” من ديوان “راكية الحواديت” ، للشاعر أحمد عواد – الهيئة العامة لقصور الثقافة ( سلسلة تجليات أدبية – 2 ) ، ط الأولى 2013 , ص 77 ، 78
[ 38 ] قصيدة “مساءٌ لليحرِ” من ديوان “وهرات” ص 16
[ 39 ] السابق ص 17
[ 40 ] السابق ص 18 ، 19
[ 41 ] قصيدة “براءات” من ديوان “ولهيةٌ لنورسٍ مازال حيّاً” ، للشاعر محمود عبد الصمد زكريا – ط الأولى 2011 ، ص 45
[ 42 ] قصيدة “وشايةٌ للبحرِ” من ديوان “وهرات” ص 22
[ 43 ] السابق ص 24 ، 25
[ 44 ] الإشارة إلى قصيدته “مساءٌ للبحرِ” ص 16
[ 45 ] الإشارة إلى قصيدته “هى و البحر” ص 50
[ 46 ] ديوان “وهرات” ص 64 ، 65
[ 47 ] قصيدة “هزيمة مفاجئة للخضر” من ديوان “هزيمة مفاجئة للخضر” ، للشاعر محمود إسماعيل – فرع ثقافة الإسكندرية ( سلسلة أصداف سكندرية – 8 ) ، ط الأولى 2000 ، ص 52
[ 48 ] قصيدة “موعد البحرِ” ، ديوان “أنشودة أورفيوس الأخيرة” ص 99
[ 49 ] السابق ص 99
[ 50 ] أنشودة أورفيوس الأخيرة ص 85
[ 51 ] السابق ص 86
[ 52 ] ديوان “وهرات” ص 50 ، 51
[ 53 ] ديوان “مشاهد من حدوتة عجوزة” ص 43 : ص 45