تعريف مصطلح الدوغمائية

ما تعريف مصطلح الدوغمائية؟ وما هي الدوغمائية السياسية؟ قد فطرنا الله على الوسطية والاعتدال وإعمال العقل إسنادًا إلى النصوص الإلهية التي تقوّم نفوسنا بأحكام العقيدة السمحة، فالانحراف عن تلك الفطرة يُشكل شذوذًا فكريًا وعقائديًا.. فماذا عن الدوغمائية؟ من هذا المنطلق يسعنا أن نقدم بيانًا عنها بقدر من الإيجاز في الواقع العربي.

تعريف مصطلح الدوغمائية

الدوغمائية أو الدوجماطيقية، هي تعريب لكلمة Dogmatism والتي تعني (القطعية، الإيقانية، المعتقدية) وأشياء من ذلك القبيل، كما يعود أصلها إلى الكلمة اليونانية δόγμα والتي تعني “المعتقد الأوحد“، وعليه يُمكننا تعريف مصطلح الدوغمائية على أنه الاعتقاد الجازم اليقيني المطلق بأمر ما دون أن يكون هناك بيّنة أو دليل، إلى جانب رفض الآخر وإنكاره تمامًا، باعتبار أن الذات حقيقة مطلقة وغيرها باطل مطلق.

إذًا يُمكننا التعبير عنها في أبسط معانيها بأنها مرادفًا للتعصب الفكري والجمود، وهي من خصال الشخص المتزمت، كذلك هي النبتة التي تثمر عنها كل الحروب المبنية على العقيدة والاختلاف.. ولا يُعتد بها مذهبًا في ذاتها إنما هي طريقة وسلوك للتفكير، لجماعة من الناس يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة في كل شيء، لا ينتابهم النقص، وينأون عن كل خطأ.

إلا أنهم يخالفون الحقيقة التي تقول بأنه لا يوجد ما هو مطلق إنما كل شيء يخضع إلى النسبية باعتبار أن الظروف تتغير، والتاريخ والأسس والمكانات، أما أنصار الدوغمائية فمعتقداتهم لا تقبل النقاش ولا تخضع لأي تغيير كان، كذلك هي مقدسة ومنزهة عن كل تفنيد أو إعمال عقل راغب في تمحيصها ومراجعتها أو حتى نقدها على أبسط تقدير.

تيارات الدوغمائية

إن الفكر المعاصر يواجه بعض الأخطار من تيارات فكرية متنازعة، تمثل كلًا منهما الدوغمائية بشكل مختلف، وهما:

1- التطرف الديني

الذي يفهم التعاليم الإلهية والنصوص القرآنية بوتيرة مغلوطة، حيث يغالي في التزمت، كما يتعلق بالظاهر أكثر منه بالباطن، علاوة على تحويل تلك التعاليم التي شملتها الشريعة إلى تعاليم طقوسية فقط، وأبعدها عن الروح والجسد.. وقتل بذلك مفاهيم متعددة كالعدل والإحسان، كما ظهر بصورة معنفة تكفيرية.

2- التطرف العلماني

هو الدوغمائية على صورتها المناقضة للتيار الأول، حيث تأتي بالاعتراف بأن الله غير موجود، جعل من المادة هي المرجعية والأساس، وأن القوة والطموحات الفردية هي القيم، كما يبعد الدين عن كل شيء حتى عن السلوك والفكر.

رغم تعارض التيارين إلا أن كليهما يشترك في كونه غلوًّا عن الصواب، وانحرافًا عن الفطرة، لذا جاء الصراع بينهما عقيمًا، حيث لا مجال للبصيرة في فهم الآخر، فقط صراع من أجل الصراع.. حتى يثبت كل تيار أنه الصواب على الإطلاق، وأن الآخر باطل محقق، ولا يعلم أنصار كل منهما أن الوسطية والاعتدال هي التي تحمل الصواب، وهي شيء آخر ينأى عن تعريف مصطلح الدوغمائية.

هل الاعتقاد الديني يمثل دوغمائية؟

يزعم بعض العلمانيين أن الاعتقاد الديني ما هو إلا حالة من الدوغمائية، حيث إنه يمحو أي ثقافة فضول أو تساؤل لدى الفرد، كما أنه يقوم على غيبيات، ويجعل المرء حائرًا متشهيًا للمعرفة، ليكون في نهاية المطاف بعيدًا عن اليقين المحقق.

إلا أننا نقترب من تعريف مصطلح الدوغمائية قبل أن نطابقها مع المعرفة الإسلامية، حيث إنها تعني عدم قدرة أحدهم على تغيير فكره، فهو مسلوب الإرادة، تابع للاتجاه وليس بصانعه، بيد أن الإسلام يقوم على محاربة الأغلال التي تجعل من الفكر متصلبًا جامدًا، حيث يحث على النظر والاجتهاد دون اتباع أعمى، امتثالًا إلى التعاليم بعد دليل وبرهان واقتناع.. ليكون الاعتقاد الديني بعيدًا كل البعد عما نصفه بالدوغمائية.

هذا لا ينفي وجود بعض التيارات في الوسط الإسلامي تحكمها الدوغمائية، وهي ينتقصها فهم الدين بنحوه الأمثل، حيث تحتكر لها الحقيقة دون أي مبررات، وعادةً ما تنشب في أسوار الجماعة الواحدة التي تتبنى فكرًا واحدًا يترعرع فيه العقل الدوغمائي.. أما عن الأدلة من القرآن على تشجيع الإسلام بالسؤال والتفنيد فلنا أن نذكر قول الله تعالى:

  • سورة النحل: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)”.
  • سورة البقرة: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)”.
  • سورة الأنعام: “وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)”.
  • سورة البقرة: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)”.

مصطلح الدوغمائية عند أركون

المفكر الجزائري محمد أركون والذي توفى 2010 كان من متبني الفكر الدوغمائي، حيث قرنه بأصحاب العقيدة الإيمانية المتشددة، أي من لديه الإيمان بمغالاة، وهو بطبيعة الحال وصف قاصر للدوغمائية، فهي صفة تنسب لمن يثق في عقله وقدراته، دون التفكير في مدى اشتمالها على نسبة من الخطأ.

مبادئ الدوغمائية

إن العقل المتطرف هو العقل المغلق، له بعد واحد لا يُمكنه استيعاب أبعاد أخرى، فلا يرى غير فكرته، ولا يتناقش فيها، فهي المؤكدة.. لا يبحث عن أرضية مشتركة ولا يفتح قنوات للحوار، كل ما يفعله هو ازدراء الرأي المخالف والتعددية.. وفيما يلي بعد أن تمكنا من تعريف مصطلح الدوغمائية بوسعنا التطرق إلى تلك القواعد المنشئة لها على النحو التالي:

اليقين المطلق لا وجود للبراهين الكافية في الفكر الدوغمائي، حيث الاعتماد على التسليم دون نقد أو تمحيص.
غياب الروح النقدية لذا تعد الدوغمائية مقابل للنقدية، وهو ما أشار إليه كانط الفيلسوف الألماني.
التراوح بين قدرة العقل المطلقة وسلطة النص المصمتة هنا ما يقصد به إما اعتناق العلمانية التي تثبت العقل وحده، أو التطرف الديني الذي يلغي الإنسان ووجوده وفعاليته.
السلطة للآباء والأجداد “هذا ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا” ذلك الجمود الذي لا يجعل العقل مهيأ للاستماع أو التغيير أو استعمال آليته التي فطره الله عليها، فالأجداد هم أصحاب المرجعية وهو الصواب.
التعسف التمسك الأعمى بالرأي، وما يرتبط به من عدم قبول التعددية أو الشك.. مع فرض الرأي بالقوة بعيدًا عن الإقناع أو الإيمان.

 

الفرق بين البراغماتية والدوغمائية

تلك المصطلحات التي ترددت على مسامع الناس بوقع سلبي، وهي من أكثر المصطلحات الفلسفية الشائعة، ويُمكننا تعريف مصطلح الدوغمائية والبراغماتية على هذا النحو:

  • البراغماتية: هي مرادف النفعية، ذلك المبدأ الذي يجعل المصلحة الفردية أولًا وبعدها أي شيء، فالنفعية تسبق الأخلاق والدين عند أنصار هذا المذهب، ولا علاقة لها بالخير والشر إذًا، فهي قائمة على المصلحة وتنأى عن العاطفة.
  • الدوغمائية: كما ذكرنا سلفًا إنها تعني المنغلق على أفكاره ويعادي الفكر المغاير له.

الدوغمائية في المجتمعات العربية

لا شك أن تلك العقلية لا زالت متحكمة في مسارات عديدة بالمجتمعات العربية، ويتبناها التقليد والتكرار والاجترار، كما أنها ترفض التغيير أو التجديد.. وتتجلى في أسر عقول الكثيرين فكريًا وفق نمط محدد، وفي ظل سيادة ذلك التشوه في العالم العربي والقولبة الفكرية بمعناها السائد فإنه لا مجال للموضوعية بعد، وسنكون بصدد الأفكار الجاهزة، غير القابلة للتشخيص أو التدقيق أو حتى التعرف.

لاسيما في المجتمعات التي لم يُكتب لها التقدم، نجد أن علاقاتهم وتفاعلاتهم أصبحت متقولبة تتبع الدوغمائية دون النظر إلى التجديد الذي تفرضه طبيعة الحياة المتجددة بذاتها، حيث يكون الناس في معازل فكرية، يتوقف نشاطهم عند الحدود الروتينية، وكذلك تفكيرهم.. وإن كان المجتمع العربي لا يعاني بمفرده من تلك العقلانية إلا أنه قدم الكثير من الأمثلة الحيّة عليها، إلى الحد الذي أصبحت فيه متغلغلة في مفاصل المجتمعات.

إن كان بوسعنا تعريف مصطلح الدوغمائية فيُمكننا القول إنها أشبه بالغلوّ والتطرف الذي نعاصره الآن في أشكال شتى.. إما تطرفًا دينيًا أو علمانيًا في مجتمع لا يعرف للوسطية سبيلًا.