اعترف الآن أني خلقت وحيدا، وأن تطوري الإدراكي رفعني من مجرد الاكتفاء بصحبة أو حديث عابر إلى مرتبة الاكتفاء المادي، لا أستأنس بشخص على المواقع الافتراضية، لا أتحدث كثيرا في الهاتف، أحببت المقهى عن القراءة، والكتاب عن الـ “PDF”، والقهوة عن الشاي، والسيجارة عن ما عداها لأنها أقرب لليد والفم وذبحة القلب، أستأنس بالموجود القاتل وأستوحش المفقود الملائكي، لم أسهر يوما متطلعا إلى القمر أفكر في محبوبة، أشاهد فيلما عن قصة حب أوقع وأكثر دفئا، النوم أكثر واقعية من خيالات السهر، والموت أكثر اقعية لدي من الأفراح، أشارك في المآتم ولا أحضر احتفالات، عشقت فيروز في أول أغنية أسمعها لها حين قالت “شط إسكندرية”، ولم أتعاطف مع صباح حتى الآن بسبب جملة “يا انا يا انا بلهيبي”، مالي ومال لهيبك؟ أريد شيئا أكثر حياة.

 

(الشوارع حواديت.. حوداية الحب فيها وحوداية عفاريت.. اسمعي يا حلوة لما اضحكك)

في البداية كنت أحب حضانة “هدى الإسلام” أكثر من حضانة “الشيماء”، فهي ذات سقف مفتوح على السماء، أرى سحب الشتاء أكثر حياة من سقف الحضانة الأخرى المصفر كالعدم، كنت أفضل الصفوف الدراسية المليئة بالحياة، اللغة العربية والعلوم والفقه والتاريخ والجغرافيا، ينشط خيالي معها بشكل عجيب، لم أكن أدرك لماذا أكره الرياضيات، في حين أني أستطيع إيجاد حلولا للمسألة الواحدة بأكثر من طريقة، لكن جميعها تخلو من الخطوات التي حددها المنهج، كنت أحسب الناتج بدقة في الفيزياء دون الاستعانة بخطوات المسألة، كدت أرسب في الفيزياء لكني لم أنس أي معلومة طبقها خيالي للوصول إلى حلول، أتذكر جيدا أن المياه موصل رديء للكهرباء أكثر ما أتذكر تركيب الماء نفسه، نعم H2O، لكني حفظت الأحرف الثلاثة بعد عناء كيميائي، في حين أن مسائل الوراثة في الأحياء ومسائل الميراث في الفقه لم تكن تستعص علي بل أحلها في ثوان معدودة، كنت أكره “حصة الألعاب”، لكني كنت أشارك في مسابقات ألعاب القوى، أنطلق في اختراق الضاحية وأستمتع بالوثب الطويل أكثر من الجلوس في حوش المدرسة لا حول لي ولا قوة، حتى كرة القدم كنت لا أتقن من مهاراتها سوى الركض والركل، بجانب أنها رياضة جماعية، وأنا خلقت وحيدا.

 

(لما كان البحر أزرق.. والنجوم لسه ف مكانها.. وطيور بتحلم فوق الشجر كل يوم.. لما كان ممكن أصدق إن السعادة كلمة واحدة)

كنت أعشق رائحتها في المقهى، في السرير، في المواصلات، أقترب من شعرها دون أن تشعر، وحين كانت تغيب كنت أتمنى أن أتخلص منها بأي طريقة، أفضل قتلها على مفارقتها، كنت أطلب منها الصمت كثيرا، وكانت تحب أن تتكلم معي كثيرا، أتمنى تكميم فمها أو قص لسانها، أستطيع سماع صوتها الداخلي كما أسمع صوت تفكيري تماما، كانت ترتعد بمجرد أن تدرك أنني فهمت ما تفكر فيه، فتكثر من التحليل والتبرير للتشويش على تركيزي ولدفع الرعب عن نفسها، لم يكن تعلقي بها سوى محاولة أولى لطرد شبح الوحدة، وتوالت بعدها المحاولات، نسخ مكرورة لا تختلف، أستأنس بالموجود القاتل وأستوحش البعيد الملائكي، المرأة التي باتت في سريري ليلة واحدة غمرتني بدفء لم تستطع الفتاة الرقيقة البريئة معدومة التجربة أن تمنحه لي طيلة عام، حتى الزواج كفكرة يحتاج إلى أسرة وعائلات ومجاملات ووضع اجتماعي ممتلئ بالآخرين الافتراضيين، كيف أنجح في كل هذا وأنا خلقت وحيدا بالفعل.

منذ أن قصصت أثري بين الناس واكتشفت صورة الوحدة التي خلقت عليها وأنا أكثر اتزانا من ذي قبل، كمسخ رآى وجهه في المرآة أخيرا ففهم لما تتعجب الناس منه، فارتاح، لأنه فهم لا لأنه مسخ، كنت قبل ذلك كفتاة مريمية رزقت بطفل دون أن يخبرها جبريل من أين جاء.

(عبرت من بوّابة الدموع إلى صقيع الشمس والبرد.. لا أهل لي في خيمتي وحدي.. عشرون عاما وأنا يسكنني الحنين والرجوع) حين أمشي بمفردي كثيرا لا أكون وحيدا، فالشوارع والبيوت موجودات تبعث فيّ سعادة ودفئا، البحر أيضا له وجود دافئ مهما قسى البرد وهاجت الريح، ذلك أفضل من رفيق ثرثار يتحدث عن أشياء غير حية، علاقات مشوهة وأحلام معطوبة وأناس يتفننون في فعل كل شيء سوى الشيء الوحيد الذي خلقوا له، كل هذا يشعرني بالغثيان، فأبحث عن موجودات أكثر حياة وألجأ إليها معتذرا عن استكمال الجلسة معه، أقرب وأخف الموجودات الحية إلى قلبي هو دخان السجائر، وأبغضها هو الصمت، أملأه صفيرا وغناء أو ترتيلا للقرآن، حتى الخمر لم أشربها يوما بمفردي، ولم أشرب بصحبة أناس غير أحياء، وبمجرد أن أنتشي ويتسع إدراكي أفر إلى أقرب مكان به حياة، نعم ذات مرة انتشيت فخلعت ملابسي وقفزت في البحر، أسبح دون أن أحسب زمن تنفسي تحت الماء كالمعتاد، وفي مرة أخرى انتشيت فأخذت أرتل ما تيسر من سورة مريم، “فهب لي من لدنك وليا” حتى “والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا”.

 

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

العمر يحتوي على محاولتين للفهم، محاولة أولى ومحاولة أخيرة، تجنبت دائما أن تكون محاولتي الأولى للفهم غير حية، حرصت على أن تكون عن تجربة مفعمة بالحياة تملأ كياني حركة وتنير عقلي من الحيرة والدهشة والعجب، المحاولة الأولى دائما غير مكتملة حتى لدى الأنبياء، فيقين النبي ليس الوحي بل الموت، “واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”، فلم أجهد نفسي في التفكير خلال المحاولة الأولى، بل ملأتها بالفعل حتى يطمئن داخلي، إن لم يطمئن اقتناعا، فعلى الأقل اطمأن اكتفاء، حتى إذا كانت المحاولة الأخيرة للفهم، والتي ستأتي بثقل التجربة وثقة المعرفة، ويقين بعدم وجود يقين سوى الموت رغم كل ما خضته، عندها سأدرك ـ والإدراك مشروع امام ملك الموت ـ أن عمري لم يذهب هباء، وهذه النتيجة هي فقط ما كنت أسعى إليه خلال محاولتي الأولى للفهم، فيصطحبني وحيدا كما خلقت، لكن مستأنسا بكل حي مررت به طوال عمري، أتخيل أن عذاب القبر ما هو إلا تركي وحيدا مقيد الحركة أفكر في عمري الذي مضى، هذا كفيل أن يحيل كل ما حول غيري جحيما حقيقيا مشتعلا بالندم، لكن كل لحظة ستمر علي في هذه الحفرة سأتذكر فيها أني أقدمت على فعل كل ما تاقت نفسي إليه، فتتحول الحفرة من جحيم الندم إلى نعيم الظفر، الظفر بحياة حية حتى وإن خلقت وحيدا.