سبب نكبة البرامكة

سبب نكبة البرامكة لم يكُن واضحًا بالقدر الذي أفسح المجال أمام الإشاعات والتفاسير المغلوطة، وهذا من قبيل تشويه الحقائق التاريخية، إلا أن بيان ووصف حال البرامكة قبل نكبتهم ربما يكون مُدعاة لفهم السبب من وراء تنكيل الرشيد بهم، وهذا ما يتضح أمامنا من خلال الواقع العربي.

سبب نكبة البرامكة

https://www.youtube.com/watch?v=pK5BNzWO9jE

لم يكُن الخليفة هارون الرشيد أول خليفة يقوم بقتل وزيرُه لخيانتهِ أو جرم ارتكبه، ولم يكن الأول في أن يزج ببطانته في السجون.. وتلك كانت نكبة البرامكة التي لا يعرف البعض سببها لكونها جاءت فجأة دون سبب واضح، لاسيمًا إن كانوا هم على قرابة وصلة بالرشيد، ومقدار الثقة والحب التي كانت تجمع بينهما.

لذا أردنا أن نذكر ما قيل في سبب نكبة البرامكة بغض الطرف عن أي الأسباب صائب وآخر من الافتراءات، على النحو التالي:

1- قصة العباسة بنت المهدي

يُذكر أن الرشيد أراد أن يزوج العباسة أخته من جعفر بن يحيى دونما أن يكون له منها ما للرجل على زوجته، إلا أنه اتصل بها سرًا وأنجب منها طفلًا، وعندما خافت على ابنها من أخيها أبعدته إلى مكة، وحينما عَلِمَ الرشيد بالأمر سخط على جعفر، وكان ذلك هو سبب نكبة البرامكة، إلا أن الأمر يخلو من المنطق والإسناد الصحيح.

هذا إن رأينا أن القصة موضوعة من الأساس لتشويه بيت الرشيد، فلربما كُتبت وفقًا لأفواه العامة، فلا علاقة للعباسة بنكبة البرامكة، فحينما كانت أسباب النكبة خافية ألّف بعض من العامة قصة العباسة إرضاءً لفضولهم.

على أن الرشيد لم يكن مبتذلًا، أو ماجنًا، فما كان له أن يُزوج أخته برجل فارسي وهي سيدة في قومها، كما لن يزوج أخته بأسلوبٍ خفيّ كهذا، وحتى إن حدث وزوّجها من جعفر فما تسمح له تقواه بأن يقتل طفلًا نتج عن ثمرة زواج مشروعة.. لذا لا يُعول على ذلك السبب على محمل يقيني.

اقرأ أيضًا: بيت شعر سبب نكبة البرامكة

2- أسباب سياسية

ربما يكون السبب الحقيقي وراء نكبة البرامكة يعزو إلى أنهم استغلوا ما لهم من نفوذ وسلطان واستأثروا بالسلطة لصالحهم، فكان منهم أفعال تكفي بأن يقوم الرشيد بإزاحتهِم عن طريق الحكم وتكون له عذرًا للتخلص منهم.. وما يتفق مع ذلك قول ابن خلدون في مقدمته:

“وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلُب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمرِه، وشاركوه في سُلطانِه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه”.

فالرشيد لم يكُن في منأى عن أفعال البرامكة، فقط قام بإغلاق عينيه عن سقطاتهم لفترة، وفاءً لخدماتهم له ومعروفهُم، أو ربما أمهلهم حتى يعودوا إلى رُشدِهِم، إلا أنهم ما كان لكبريائهم وتسلُطهم إلا التفاقم، حيث ظهر سلطانهم على سلطانه وهو الأمر الذي أثار حفيظته.

حيث تجلت النعرة الفاسية في استبداد “يحيى البرمكي” في كل شؤون الدولة، وتدخل “جعفر بن يحيى” في زمام الأمور، إلى الحد الذي جعل جعفر يُحاسب الرشيد على تصرفاته، إلا أن الرشيد كان صبورًا قوي الاحتمال، إلى أن اقتضى الأمر بأن يُفسح المجال لغضبُه.

3- الوشاية للخليفة

هنا نعني بالذكر من كانوا في عداء مع البرامكة، أو من كانوا حاقدين على قرابتهم من الرشيد وصلتهم به الواضحة، علاوةً على سلطانهم الممتد وأموالهم الطائلة.. فكان منهم من يذهب إلى الخليفة بكل ما يثير عدائِه وغضبِه ضد البرامكة، فلربما كان ذلك سببًا لا يُستهان بأثره في تنكيلِه بهم، فتغير عليهم وبات يُشكل قرارات لإبادتهم تمامًا.

كانت الوشاية تُلقى على آذان الخليفة في شكل أبيات شعرية وهو المُحب للفصاحة والبلاغة، ومن تلك الأبيات التي أثارت غضبه بشدة:

قُل للخليفة ذي الصَّنا ئِعِ والعطايا الفاشِيَهْ

وابْنِ الخَلَائِفِ مِنْ قُرَيـْ ـشٍ والملوك العاليَهْ

رأْسِ الأمور وخيْرِ مَنْ سَاسَ الأمورَ الماضِيَهْ

إنَّ البرامكة الَّذِيـنَ رَمَوْا لديك بِدَاهِيَه

عَمَّتْهُمُ لك سَقْطَةٌ لَمْ تُبْقِ منهم بَاقِيَه

فَكَأَنَّهُمْ مِمَّا بِهِمْ أعجاز نخل خَاوِيَهْ

صُفْرُ الوجوه عَلَيْهِمُ خُلَعُ المذلة بَادِيَهْ

مُسْتَضْعَفُونَ مُطَرَّدُو نَ بِكُلِّ أَرْضٍ قَاصِيَهْ

ومنازلٍ كانوا بها فَوْقَ الْمَنَازل عَالِيَهْ

أَضْحَوْا وَكُلُّ مُنَاهُمُ مِنْكَ الرِّضَا والعافِيَهْ

..

هذا ابْنُ يحيى قَدْ غَدَا مَالكًا مِثْلَكَ مَا بَيْنَكُمَا حَدُّ

أَمْرُكَ مَرْدُودٌ إلى أَمْرِهِ وَأَمْرُهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّ

فعلى الرغم من أن هناك من كان يؤيدهم ورثاهم عند موتهم إلا أن الأمر لا يخلو من الأعداء الذين واشوا بهم عند أمير المؤمنين.

4- تكوين الفضل بن يحيى جيشًا من العجم

عين الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي واليًا على الجانب الشرقي للدولة العباسية عام 178 هجريًا، وقد اتخذ من خراسان مقرًا لولايته، إلا أنه كوّن جيش عظيم قرابة 500 ألف جندي دونما إذن من الرشيد، وسُمى جيشه بالعباسية، على أن ولاء الجيش كان يعود إلى البرامكة فقط لا العباسيين، لذا كان ذلك حدث خطير أمام الرشيد عندما عَلِمَ به.

حيث لم يعزل الفضل بل استقدمه إلى بغداد، والذي حضر إلى الرشيد ومعه ما يقرب من 20 ألف جندي مُسلح من الأعاجم، الأمر الذي أثار غضب الرشيد، إلا أنه ترقب تلك الفرقة الأعجمية وهم ينزلون إلى معسكر الرصافة في قلب بغداد، حتى يضعون الرشيد والخلافة تحت أنظارهم.. وهذا ما ظنه هارون الرشيد وأخذ رد فعل مباشر عليه.

حيث يُعتبر البعض أن هذا هو سبب نكبة البرامكة الأساسي والمنطقي، فرأى الرشيد أنه بصدد انقلاب مسلح للإطاحة به والخلافة العباسية بأسرها، من هنا عزم على تحطيم البرامكة تمامًا بإيمان كامل منه بخطرهم، فهو كان بارع الذكاء في إضعاف شوكة البرامكة، إلى إطاحتهم بشكل كامل.

اقرأ أيضًا: ما هو سبب تنكيل الرشيد بالفضل بن يحيى

تنكيل هارون الرشيد بالبرامكة

بعدما تبين سبب نكبة البرامكة، نذكر أن الخليفة هارون الرشيد قام ببعض الإجراءات بصددهم، كانت على النحو التالي:

  • أمر بإعدام جعفر بن يحيى وتعليقه مصلوبًا على جسر بغداد.
  • تم حبس الفضل بن يحيى وأبيه.
  • مصادرة أموال البرامكة ونسلهم.
  • مات يحيى وابنه الفضل في السجن.

على الرغم من أن الدوافع الحقيقية وراء قرارات الرشيد كانت خفية إلا أن البرامكة كانت نهايتهم مأساوية بالفعل، هذا وقد عُرِفَ البرامكة بكرههم للعرب واتسامهم بالنعرة الفارسية والتعالي على العروبة.

مأساة البرامكة

يُذكر أن البرامكة نظير تعلمهم النظم الفارسية الدقيقة قاموا بخدمة الدولة الإسلامية، وقد شيع بين الناس أنهم من الزنادقة الذين يبطنون الكفر ويُظهرون الإسلام، ولمّا نوى الرشيد أن يسلبهم سلطانهم، رأى البعض أن سبب نكبة البرامكة هو غيرة الرشيد منهم وأنه أحب أن يستعيد سلطانهِم وأموالهِم الذي انتزعوه منهم حتى لا يظهر بمظهر الحاكم الضعيف.

ما يعنينا هنا أن الناس كانوا قسمين، فلم يكن جميعهم يرى أن البرامكة مخطئون، بل يرون أنهم ظُلموا في ظل كل تلك الإشاعات التي ذُكرت عنهم، فذكر البعض عنهم:

إن البرامكة الكرام تعلموا فِعْل الكرامِ فَعَلَّمُوهُ النَّاسَا

كانوا إذا غرسوا سَقَوْا وإذا بَنَوْا لم يهدموا مِمَّا بَنَوْه أَسَاسَا

وإذا هُمُ صنعوا الصنائع في الورى جعلوا لها طُول الْبَقَاء لِبَاسَا

كما ذُكر أن أبا زكار الأعمى كان يُغني لجعفر بن يحيى الأبيات الشعرية التالية قبل أن يدخل عليه مسرور ليقتله بأمر من الخليفة:

فلا تَبْعَدْ فكُلُّ فتًى سيأتي عليه الموت يَطْرُقُ أو يُغَادي

وكُلُّ ذخيرة لا بُدَّ يومًا وإن بَقِيَتْ تَصِيرُ إلى نَفَادِ

وهل يُغْنِي مِنَ الحَدَثَان شيءٌ فَدَيْتُكَ بالطريف وبالتلادِ

علاوةً على أن الكثير من الشعراء قاموا برثائهم، منهم الرقاش الذي قال:

هَدَأَ الخالون مِنْ شَجْوٍ فناموا وعيني لَمْ يُلَامِسْهَا مَنَامُ

وما سهري لأنيَ مُسْتَهَامٌ إذا أَرِقَ المحِبُّ المُسْتَهَامُ

وَلَكِنَّ الحوادث أَرَّقَتْنِي فَلِي سَهَر إذا هَجَدَ النيامُ

أُصِبْتُ بِسَادَةٍ كانوا نُجُومًا بِهِمْ نُسْقَى إذا انقطع الغَمَامُ

على المعروف والدنيا جميعًا وَدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السلامُ

فَلَمْ أَرَ قَبْلَ قَتْلِكَ يا ابنَ يَحْيَى حُسَامًا فَلَّهُ السيفُ الحُسَامُ

أما والله لولا خَوْفُ وَاشٍ وَعَيْنٍ للخليفة لا تَنَامُ

لَطُفْنا حول جِذْعِكَ واسْتَلَمْنَا كما للناس بالحَجَر اسْتِلَامُ

فقد رأى هؤلاء أن الرشيد اشتد على البرامكة دون لين أو كرم، حتى أنه نهى عن وقوف الشعراء على مقابرهِم أو رثائهم.. وذُكر أن لهم مآثر مع العامة جعلت بعضهم عرضوا أنفسهم للقتل من حُسن ما فعل معهم البرامكة.

حينما لا يكون السبب وراء حدث تاريخي من الوضوح الكافي يكون عرضة لانتحال تفسيرات واهية لا حقيقة لها ولا أصل، فعادة الحاقدين لا تخلو من اختلاق الشائعات.