أخذني في حضنه فانتشيت وتدفق الدم إلى عروقي وتمددت شراييني وسرت الرعشة في أوصالي. مددت يدي المس شعره الناعم وأتحسس جلده الطري وأضمه أكثر إلى أحضاني فرجعت عشرات السنيين للخلف حيث ملمس الطفولة الندى الحريري ..جلت بأنفي أتشمم عطره الفواح ورائحة تشبه عبق التاريخ وعبير ورود لم تهزمها السنون ..إنه شال أمي.
ألتحف به عندما تشتد برودة الجو فأتنسم عبير سنوات ماضية لن تستطيع مهما مرت السنون أن تنسيني إياها يمنحني دفئا وحنانا أفتقده بشدة فيمن حولي. أتذكرها وهي التي لا تغيب عن بالى لحظة.
كنت قد اشتريته لها في إحدى أعياد الأمهات وهي واحدة من المرات القليلة التي كنت قد أهديتها شيئا خلالها.
لماذا لم اشترى لها روبا مثلا؟ وهي التي كانت تشتكي من زمهرير البرد دائما ومن تجمد أطرافها؟ ربما لأن الروب كان يشكل عائقا في حركتها الدائمة لقضاء احتياجات المنزل من تنظيف وترتيب وغسل الصحون ونشر الغسيل وطهو الطعام. فقد كانت دائبة الحركة لا تكل ولا تمل طوال النهار.
وماذا عن آخر النهار؟ حين تجلس وتسترخي على مقعدها الأثير لتشاهد التلفاز أو تثرثر مع بعض الجارات؟ أما كان يجدر بي شراء الروب عندئذ ليدفئها ويحتضن جسدها المنهك؟ ولكن تبقى مشكلة تدفئة اليدين والقدمين وخلع الروب وارتداؤه عند قضاء الحاجة. إذا فقد كان اختيار الشال هو الأصوب. فهي تلف به جسدها أيضا وتضمه أسفل قدميها في جلستها متربعة وتدفس تحته يديها المتعبتين المتجمدتين أثر الماء المثلج الذي تضعهما تحته طوال الوقت للأعمال المنزلية أو للوضوء.
إذا فقد كان الشال ذو الأغراض المتعددة. فهو دافئ وناعم و الوانه زاهية تتدرج من البنى الغامق بلون قهوتها الصباحية إلى البنى الفاتح المنير كوجهها مع خيوط حمراء ذهبية كلون بشرتها لامعة كلون طيبتها وكرمها الحاتمى مع الأهل والأصدقاء والجيران.
كانت مثالا لهم جميعا أحبتها كل جاراتها فلم يخلو منهم المنزل ليلا أو نهارا، صيفا أو شتاء، يأتين إليها فتؤنساهن بحديثها الدافئ الحار مثل دفء شالها، ولربما استمد منها هو الدفء والحرارة. كريمة كرم حاتمي رغم قلة الموارد لكنك كنت دائما ما تجد عندها شيئا ما لتأكله، أو تشربه أو تحلى به. ناعمة الملمس كالحرير كطفلة رضيعة لم يخدش جلدها شقا الحياة بعد.
ورائحتها الطيبة ظلت تضخ شذاها عبر شالها طوال السنين رائحة النظافة العادية التي لم تعرف يوما ترف الشامبو، أو الشاور جيل، أو البيير كاردان. ورغم ذلك فعطرها كان أغلي من كل عطور الأرض وأطيبها نفسا وتنفسا.
كان موعدنا معها أسبوعي كل يوم خميس. نأتي إليها بعد يوم العمل الشاق فنجدها قد أعدت لنا الطعام دون انتظار، وفى كل الظروف حتى مع المرض كان وجودنا معها يمنحها كما يمنحنا شحنات قوية من الحب والكرم والطيبة والحنو يساعدنا ويعطينا المقدرة على مواصلة الحياة.
وكانت حين ينال منها التعب والبرودة تجلس متربعة على كرسيها ضامة قدميها ودافسة يديها تحت شالها الزاهي الألوان مما ينعكس علينا بالتفاؤل والحبور.
وحين توفاها الله وقمت مع أخوتي بفرز حاجياتها اخترت أنا الشال ليس لأنه أنا من اشتراه لها لكن لأنني حين أراه والتحف به والمسه وأشمه فكأنني رأيتها ولمستها وشممتها والتحفت بدفئها وحبها وحنانها.