شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير

شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير نوجزه في بعض الأغراض الشعرية التي جاء بها في الأبيات المُنتقاة، فهو من أبدع في العصر الجاهلي ليكون من أصحاب المُعلقات، واحدًا من ذوي الإنتاج الشعري المتنوع بين المدح والفخر والثناء وكذلك الغزل والرثاء.. ومن خلال الواقع العربي يُمكننا أن نقف على أهم مواضع قصيدة البردة ومقاصدها.

شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير

لمّا أسلم كعب بن زُهير ابتعد عما عُرف به شعراء الجاهلية، لتقتصر قصائده على المعاني الإسلامية مُعبرة عن مدى تأثره بآيات الله ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعليه جاءت قصيدة البردة ليُلم فيها بالكثير من المعاني التي بوسعنا الإشارة إليها على النحو التالي:

1- وصف المرأة التي أحبها

أتت الأفكار الرئيسية في تلك القصيدة موضحة كم أن الشاعر استخدم أفضل الألفاظ وأكثرها أثرًا في التعبير عن حُبه للرسول ومدحُه له صلى الله عليه وسلم، حيث بدأ مطلع قصيدته بذكر مُعاناته إثر البعد عن المرأة التي يُحبها، وهذا ما اعتاد عليه شعراء المعلقات سلفًا، فكان ينتاب الكثير من أشعارهم الغزل والتفنن في وصف المحبوبة، وأتت تلك الأبيات في شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير على النحو التالي:

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ

مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ

وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا

إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً

لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت

كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ

شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ

صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ

تَجلو الرِياحُ القَذى عَنُه وَأَفرَطَهُ

مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ

يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت

ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ

لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها

فَجعٌ وَوَلعٌ وَإِخلافٌ وَتَبديلُ

فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها

كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ

وَما تَمَسَّكُ بِالوَصلِ الَّذي زَعَمَت

إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ

كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً

وَما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ

أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ

وَما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ

فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت

إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ

أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها

إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ

وَلَن يُبَلِّغها إِلّا عُذافِرَةٌ

فيها عَلى الأَينِ إِرقالٌ وَتَبغيلُ

مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِفرى إِذا عَرِقَت

عُرضَتُها طامِسُ الأَعلامِ مَجهولُ

تَرمي الغُيوبَ بِعَينَي مُفرَدٍ لَهَقٍ

إِذا تَوَقَدَتِ الحُزّانُ وَالميلُ

ضَخمٌ مُقَلَّدُها فَعَمٌ مُقَيَّدُها

في خَلقِها عَن بَناتِ الفَحلِ تَفضيلُ

حَرفٌ أَخوها أَبوها مِن مُهَجَّنَةٍ

وَعَمُّها خَالُها قَوداءُ شِمليلُ

يَمشي القُرادُ عَلَيها ثُمَّ يُزلِقُهُ

مِنها لَبانٌ وَأَقرابٌ زَهاليلُ

عَيرانَةٌ قُذِفَت في اللَحمِ عَن عُرُضٍ

مِرفَقُها عَن بَناتِ الزورِ مَفتولُ

كَأَنَّ ما فاتَ عَينَيها وَمَذبَحَها

مِن خَطمِها وَمِن اللَحيَينِ بَرطيلُ

تَمُرُّ مِثلَ عَسيبِ النَخلِ ذا خُصَلٍ

في غارِزٍ لَم تَخَوَّنَهُ الأَحاليلُ

قَنواءُ في حُرَّتَيها لِلبَصيرِ بِها

عِتقٌ مُبينٌ وَفي الخَدَّينِ تَسهيلُ

تَخدي عَلى يَسَراتٍ وَهيَ لاحِقَةٌ

ذَوابِلٌ وَقعُهُنُّ الأَرضَ تَحليلُ

سُمرُ العُجاياتِ يَترُكنَ الحَصى زِيَماً

لَم يَقِهِنَّ رُؤوسَ الأُكُمِ تَنعيلُ

يَوماً يَظَلُّ بِهِ الحَرباءُ مُصطَخِماً

كَأَنَّ ضاحِيَهُ بِالنارِ مَملولُ

كَأَنَّ أَوبَ ذِراعَيها وَقَد عَرِقَت

وَقَد تَلَفَّعَ بِالقورِ العَساقيلُ

وَقالَ لِلقَومِ حاديهِم وَقَد جَعَلَت

وُرقُ الجَنادِبِ يَركُضنَ الحَصى قيلوا

شَدَّ النهارُ ذِراعاً عَيطلٍ نَصَفٍ

قامَت فَجاوَبَها نُكدٌ مَثاكيلُ

نَوّاحَةٌ رَخوَةُ الضَبعَين لَيسَ لَها

لَمّا نَعى بِكرَها الناعونَ مَعقولُ

تَفِري اللِبانَ بِكَفَّيها وَمِدرَعِها

مُشَقَّقٌ عَن تَراقيها رَعابيلُ

يَسعى الوُشاةُ بِجَنبَيها وَقَولُهُم

إِنَّكَ يَا بنَ أَبي سُلمى لَمَقتولُ

وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ

لا أُلفِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ

فَقُلتُ خَلّوا طَريقي لا أَبا لَكُمُ

فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ

كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ

يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ

فهي المحبوبة ذات الجمال التي ما إن استشعر البُعد عنها يعتريه الأسى، ولِم لا وهو أسير قلبها، فلا يضاهيها أحد في المحبة الكامنة بداخله تجاهها.. وكعادة العرب قديمًا كانوا لا يدخرون جهدًا في الغزل الصريح، حيث التعبير عن المحبوبة بكافة المواصفات الجمالية فيها لا الكامنة فحسب بل الظاهرة للعيان كذلك، فأشار كعب إلى محبوبتهِ بأنها ذات القوام الممشوق كالغزال.. تلك التي يخرج من فمها روائح المسك العبق.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة امرؤ القيس فهي هي

2- طلب الاعتذار من الرسول

ها قد وصل كعب إلى الغرض الرئيسي من قصيدته البردة، حيث يُذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد هدر دمُه، فكان يعتذر منه، ويأمل أن يعفو عنه ويشمله بمحبته، كما أقر بذنبه وأن ما سمعه عن الرسول كان من أولئك المُنافقين الوشاة الذين لا يقولون إلا الزيف.. وجاء شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير في تلك الأبيات على النحو التالي:

أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللَهِ أَوعَدَني

وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللَهِ مَأمولُ

مَهلاً هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ ال

قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَفصيلُ

لا تَأَخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم

أُذِنب وَلَو كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ

أما عن السبب وراء إهدار الرسول لدماء كعب، فكان مردّه أنه هجا رسول الله في قصيدة له، ولمّا أسلم طلب الاعتذار عما بدر منه.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران

3- وصف حاله

نستكمل شرح قصيدة البردة لكعب بن زهير والتي انتقل فيها الشاعر إلى غرض آخر من أغراض قصيدته، ليقول في أبياته:

لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ

أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ

لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ

مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ

مازِلتُ أَقتَطِعُ البَيداءَ مُدَّرِعاً

جُنحَ الظَلامِ وَثَوبُ اللَيلِ مَسبولُ

حَتّى وَضَعتُ يَميني لا أُنازِعُهُ

في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيلُهُ القيلُ

يعبر في تلك الأبيات عن الموقف الذي هو فيه، فهو يرتعد من خوفه، ولا أمان إلا في حضرة رسول الله وعفوه عنه.

4- وصف الرسول

انتقل الشاعر من وصف محبوبتهِ في مطلع القصيدة، إلى وصف أشرف الخلق، على سبيل المدح والثناء حتى يعفو عنه الرسول ويقبل اعتذارُه، لذا نأتي بشرح قصيدة البردة لكعب بن زهير في تلك الأبيات على النحو التالي:

لَذاكَ أَهَيبُ عِندي إِذ أُكَلِّمُهُ

وَقيلَ إِنَّكَ مَسبورٌ وَمَسؤولُ

مِن ضَيغَمٍ مِن ضِراءَ الأُسدِ مُخدِرَةً

بِبَطنِ عَثَّرَ غيلٌ دونَهُ غيلُ

يَغدو فَيَلحَمُ ضِرغامَين عَيشُهُما

لَحمٌ مِنَ القَومِ مَعفورٌ خَراذيلُ

إذا يُساوِرُ قِرناً لا يَحِلُّ لَهُ

أَن يَترُكَ القِرنَ إِلّا وَهُوَ مَفلولُ

مِنهُ تَظَلُّ حَميرُ الوَحشِ ضامِرَةً

وَلا تُمَشّي بِواديهِ الأَراجيلُ

وَلا يَزالُ بِواديِهِ أخَو ثِقَةٍ

مُطَرَّحُ البَزِّ وَالدَرسانِ مَأكولُ

إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ

مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ

في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم

بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا

زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ

عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ

هُنا تطرق الشاعر إلى هيبة النبيّ وعزته، وقال الكثير في مدحِه، ومن أشهر الأبيات ذيوعًا في البردة “إن الرسول لنور يُستضاء به” فهو الهداية وفي منهاجُه كل الرشاد.. فقد مدحه في أبياته مدحًا صريحًا واصفًا له -صلى الله عليه وسلم- بالسيف لاتسامُه بالثبات والشدة.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة المساء لخليل مطران

وصف الصحابة الكرام

لم يقتصر الشاعر على وصف رسول الله، بل تطرق في أبيات البردة إلى إنصاف الصحابة من كان يهاجيهم في سابق عهده أصبح يمدحهم بعد إسلامه آملًا من رسول الله أن يضمه معهم ويجعله من تابعيه ومن يُحب.. وهنا نأتي بشرح قصيدة البردة لكعب بن زهير في أبياتها الأخيرة كما يلي:

شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ

مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ

بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ

كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ

يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم

ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ

لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ

قَوماً وَلَيسوا مَجازيعًا إِذا نيلوا

لا يَقَعُ الطَعنُ إِلّا في نُحورِهِمُ

ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ

هُم أصحاب الهمة والمنعة والرفعة.. من يود أن يكون معهم في صحبة خير خلق الله، من لا يهابون المعارك ولا يتهاونون في إعلاء راية الإسلام، فهم خير سند للرسول كالجبال الأشدّاء.

كعب بن زُهير هو الشاعر المُخضرم الذي لم تخلو أشعاره من مديح رسول الله.. وكانت قصائده بعد إسلامه تنم عن حُسن إيمانه.