شرح قصيدة المساء لخليل مطران

قصيدة المساء لخليل مطران من أروع ما نثر.. فهو شاعر القطرين، لبنانيّ الأصل، من أشهر الشعراء وأثقلهم فهو الجامع ما بين الثقافة العربية والأجنبية، وعُرف عنه عمق المعنى والتعبير، فهو من ينعكس وجدانه على كلماته، لتكون أبياته معبرة تصل إلى قارئها وسامعها لتصف حاله.. فهو مُلهم مُسالم عاطفيّ كثير العلم والتعلم، ومن خلال الواقع العربي يسعنا التعرف على واحدة من أشهر قصائده “المساء“.

شرح قصيدة المساء لخليل مطران

اعتاد مطران في قصائده عامة وفي قصيدته المساء خاصةً على الاندماج مع الطبيعة، فهو يراها مرآة لحاله، معبرة بكل ما تحمله من ظواهر عما يشعر به.. فإن حلّ الليل فهو يرى ظلامه الكامن بأغواره، وإن فلّ فإنه يطمح في بصيص من الأمل يبعث في نفسه النور، هذا وجاءت أبيات قصيدة المساء لخليل مطران على النحو التالي:

1- داء القلب والجسد معًا

تحدث الشاعر في مطلع قصيدته عن مرض عانى منه، وقد شبه آلام جسده بآلام روحه، فكم هو يعاني من مرارة الحب وعذابه، وويلات الهجر والفراق.. فلو أن جسده يؤلمه فهو لن يضاهي ألم القلب الذي يشكو من شدة الحزن والأسى، فقد اكتمل ضعفه إذًا، وجاءت أبيات القصيدة على النحو التالي:

داءٌ ألَمَّ فَخِلْتُ فِيهِ شَفَائِي

مِنْ صَبْوَتِي فَتَضَاعَفَتْ بُرَحَائِي

يَا لَلضَّعِيفَيْنِ اسْتَبَدَّا بِي وَمَا

فِي الظُّلْمِ مِثْلُ تَحَكُّمِ الضُّعَفَاءِ

قَلْبٌ أَذَابَتْهُ الصَّبَابَةُ وَالْجَوَى

وَغِلاَلَةٌ رَثَّتْ مِنِ الأَدْوَاءِ

وَالرُّوْحُ بيْنَهُمَا نَسِيمُ تَنَهُّدٍ

فِي حَالَيَ التَّصْوِيبِ وَ الصُّعَدَاءِ

وَالعَقْلُ كَالمِصْبَاحِ يَغْشَى نُورَهُ

كَدَرِي وَيُضْعِفُهُ نُضُوبُ دِمَائِي

هَذَا الَّذِي أَبْقَيْتِهِ يَا مُنْيَتِي

مِنْ أَضْلُعِي وَحَشَاشَتِي وَذَكَائِي

عُمْرَيْنِ فِيكِ أَضَعْتُ لَوْ أَنْصَفْتِنِي

لَمْ يَجْدُرَا بِتَأَسُّفِي وَبُكَائِي

عُمْرَ الْفَتَى الْفَانِي وَعُمْرَ مُخَلَّدٍ

بِبيَانِهِ لَوْلاَكِ في الأَحْيَاءِ

فغَدَوْتَ لَمْ أَنْعَمْ كَذِي جَهْلٍ وَلَمْ

أغْنَمْ كَذِي عَقْلٍ ضَمَانَ بَقَاءِ

يَا كَوْكَباً مَنْ يَهْتَدِي بِضِيائِهِ

يَهْدِيهِ طَالِعُ ضِلَّةٍ وَرِيَاءِ

يا مَوْرِداً يَسْقِي الوُرُودَ سَرَابُهُ

ظَمَأً إِلى أَنْ يَهْلِكُوا بِظَمَاءِ

يَا زَهْرَةً تُحْيِي رَوَاعِيَ حُسْنِهَا

وَتُمِيتُ نَاشِقَهَا بِلاَ إِرْعَاءِ

هَذا عِتَابُكِ غَيْرَ أَنِّيَ مُخْطِيءٌ

أَيُرَامُ سَعْدٌ فِي هَوَى حَسْنَاءِ

حَاشَاكِ بَلْ كُتِبَ الشَّقَاءُ عَلَى الْورَى

وَالْحُبُّ لَمْ يَبْرَحْ أَحَبَّ شَقَاءِ

نِعْمَ الضَّلاَلَةُ حَيْثُ تُؤْنِسُ مُقْلَتِي

أَنْوَارُ تِلْكَ الطَّلْعَةِ الزَّهْرَاءِ

نِعْمَ الشَّفَاءُ إِذَا رَوِيْتُ بِرشْفَةٍ

مَكْذُوبَةٍ مِنْ وَهْمِ ذَاكَ المَاء

نِعْمَ الْحَيَاةُ إذا قضَيْتُ بِنَشْقَةٍ

مِنْ طِيبِ تِلكَ الرَّوْضَةِ الغَنَّاءِ

إِنِّي أَقَمْتُ عَلى التَّعِلَّةِ بِالمُنَى

فهو من يصارعه المرض والفقد معًا، ولا يقوى على البقاء على قيد الحياة وهو ذو روح منهكة، فالحزن قد أعمى قلبه والمرض أفقد قواه، الأمر الذي عاد عليه بالغشاوة في فكره وعينيه، فلم تعد الأمور واضحة بعد.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة حسان بن ثابت في مدح الرسول

2- السفر للإسكندرية

ما كان له إلا أن يأخذ بنصيحة رفاقه، من اقترحوا عليه الذهاب إلى الإسكندرية حيث الراحة والاسترخاء، هناك سيجد الهواء الذي يشفي سقمه، والطبيعة القادرة بسحرها على استعادة صحته مرة أخرى، وقد اعتقد لبرهة أنه سيجد ضالته هناك ليشفي أسقام روحه لا جسده فحسب.. وجاءت تلك الأبيات في قصيدة المساء لخليل مطران على النحو التالي:

فِي غُرْبَةٍ قَالوا تَكُونُ دَوَائِي

إِنْ يَشْفِ هَذَا الْجِسْمَ طِيبُ هَوَائِهَا

أَيُلَطَّف النِّيرَانَ طِيبُ هَوَاءِ

أَوْ يُمْسِكِ الْحَوْبَاءَ حُسْنُ مُقَامَهَا

هَلْ مَسْكَةٌ فِي البُعْدِ للْحَوْبَاءِ

عَبَثٌ طَوَافِي فِي الْبِلاَدِ وَعِلَّةٌ

فِي عِلَّةٍ مَنْفَايَ لاِسْتشْفَاءِ

مُتَفَرِّدٌ بِصَبَابَتِي مُتَفَرِّد

بِكَآبَتِي مُتَفَرِّدٌ بَعَنَائِي

لكن ما نتج عن رحلته إلا أن الفراغ أشعل لهيب قلبه مرة أخرى، فنيران الحب وجدت موقدًا لها أمام الطبيعة الساحرة، وكلما تأمل فيها وجد حالته تزيد سوءًا، ولم يلبث وقد انتابته الحمى وأصابت جسده بالضعف والهوان.. وكانت تلك من أشهر أبيات قصيدة المساء لخليل مطران على الإطلاق.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل

3- الوقوف على شاطئ البحر شاكيًا

هنا تجسد اندماج الشاعر مع الطبيعة إلى أبعد حد، فقد صور نفسه وهو يجلس أمام البحر شاكيًا من الاضطراب الذي يعاني منه في روحه، اضطرابًا فكريًا عاطفيًا نفسيًا، يستتبع تردد وحيرة وعدم وضوح أو إحساس بالأمان.. فكيف لا والبحر ذاته مضطربًا في أمواجه؟

شاكٍ إِلى البَحْرِ اضْطَرابَ خَوَاطِرِي

فَيُجِيبُنِي بِرِيَاحِهِ الهَوْجَاءِ

ثاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ وَلَيْتَ لِي

قَلْباً كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ

يَنْتَابُهَا مَوْجٌ كَمَوْجِ مَكَارِهِي

وَيَفُتُّهَا كَالسُّقْمِ فِي أَعْضَائِي

وَالبَحْرُ خَفَّاقُ الْجَوَانِبِ ضَائِقٌ

كَمَداً كصَدْرِي سَاعَةَ الإِمْسَاءِ

تَغْشَى الْبَريَّةَ كُدْرَةٌ وَكَأَنَّهَا

صَعِدَتْ إِلى عَيْنَيَّ مِنْ أَحْشَائي

وَالأُفْقُ مُعْتَكِرٌ قَرِيحٌ جَفْنُهُ

يُغْضِي عَلَى الْغَمَرَاتِ وَالأَقْذَاءِ

يا لَلْغُرُوبِ وَمَا بِهِ مِنْ عِبْرَةٍ

للِمْسْتَهَامِ وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي

أَوَلَيْسَ نَزْعاً لِلنَّهَارِ وَصَرْعَةً

لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ

أَوَلَيْسَ طَمْساً لِلْيَقِينِ وَمَبْعَثاً

للِشَّكِّ بَيْنَ غَلاَئِلِ الظَّلْمَاءِ

أَوَلَيْسَ مَحْواً لِلْوُجُودِ إِلى مَدىً

وَإبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِ

حَتَّى يَكُونَ النُّورُ تَجْدِيداً لَهَا

وَيَكونَ شِبْهَ الْبَعْثِ عَوْدُ ذُكَاءِ

في حزن الشاعر الدفين، يتمنى لو أن قلبه يصبح كالصخر الذي لا يتأثر بشدة الموج، وحتى إن كان يستشعر الألم فإنه لا يقارن بذبول روحه.. كما أنه استطاع بكثير من الصور البلاغية أن يصور المظاهر الطبيعية ويجعلها معبرة عما يُعاني بدقة بالغة.

كما رأى أن تلك الطبيعة الخلابة تكون عبرة للجميع لمن يجد حزنه بقلبه ويريد إخراجه، كما عبر عن لحظة الغروب وكأنها عينٌ أصبحت دامية من انهمار الدموع الناجم عن شدة الحزن.. تمامًا كالذي يعتري قلبه في تلك اللحظة.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة مصر تتحدث عن نفسها

4- وصف المحبوبة

لم تخلُ قصيدة المساء لخليل مطران من بعض الأبيات التي وصف فيها محبوبته، فكان هذا الغرض الشعري هو المسيطر على آخر القصيدة، فهي السبب وراء آلامه المحققة التي يعاني منها، فتصورها بالفعل وكأنها ماثلة أمامه، تأتي وهو ناظر إلى أمواج البحر في لحظة الغروب، لتكون أبياته على النحو التالي:

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ

وَالْقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ

وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي

كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائِي

وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْنِي يَسِيلُ مُشَعْشَعاً

بِسَنَى الشُّعَاعِ الْغَارِبِ المُتَرَائِي

وَالشَّمْسُ فِي شَفَقٍ يَسِيلُ نُضَارُهُ

فَوْقَ الْعَقِيقِ عَلى ذُرىً سَوْدَاءِ

مَرَّتْ خِلاَلَ غَمَامَتَيْنِ تَحَدُّراً

وَتَقَطَّرَتْ كَالدَّمْعَةِ الحَمْرَاءِ

بدأ الشاعر أن يتحدث عن نهاية الأشياء ومآلها، وهو ما يجده في مشهد الغروب، فياله من مشهد ينم عن موعظة وعبر.

اقرأ أيضًا: التحليل البلاغي لقصيدة قم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التبجيلا

5- عندما حل المساء

أبدع خليل مطران في نثر تلك الأبيات الأكثر من رائعة، والتي قالها وهو في حالة بين اليأس والأمل، الحب والنهاية، فقد اختتم قصيدته بأنه قد نظر إلى الطبيعة وحينما رأى الغروب علم تمامًا كيف ستكون نهايته.. وكانت الأبيات:

فَكَأَنَّ آخِرَ دَمْعَةٍ لِلْكَوْنِ قَدْ

مُزِجَتْ بِآخِرِ أَدْمُعِي لِرِثَائِي

وَكأَنَّنِي آنَسْتُ يَوْمِيَ زَائِلاً

فَرَأَيْتُ فِي المِرْآةِ كَيْفَ مَسَائي

بين حمرة الشفق والبحر تنهمر الدموع من أعين مطران، تتزامن مع غروب الشمس ورحيلها.. فها قد عمّ المساء ولم يجد سبيلًا للأمل والنور، فقد تشكلت الصورة واضحة إذًا لتعبر عن حزنه الداخلي المسيطر على وجدانه، فقد رأى في مرآة الطبيعة أن حزنه قد تغمده تمامًا وسيطر عليه بوضوح، فكيف آن لروحه أن تُخرج أنفاسه الأخيرة حينما حلّ المساء.

دعا مطران إلى التجديد في الشعر العربي، فكان من أهم رواد الخروج عن المألوف والأغراض الشعرية المندثرة، ليكون عصريًا دون الإخلال بالأصول اللغوية الفصيحة.