شرح قصيدة امرؤ القيس فهي هي

قصيدة امرؤ القيس فهي هي كانت من أكثر القصائد تفردًا في ديوان الشعر العربي، فقد ذُكرت على لسان واحد من عمالقة المعلقات، من زيّن ألفاظها بفصاحة لغوية، وعني بإدراج أكثر من غرض شعريّ بين سطورها، وتلك كانت طبيعة الشعر الجاهلي.. هذا ومن خلال الواقع العربي يسعنا أن نستفيض في شرحها لاسيما أبياتها “فهي هي وهي هي ثم هي هي وهي هي”.

شرح قصيدة امرؤ القيس فهي هي

من شعراء المعلقات الأكثر شهرة على الإطلاق، كان يقف في قصيدته على الأطلال، وهو من الأغراض الشعرية التي كانت منتشرة في الجاهلية، فقد كانت أطلال المحبوبة، من باتت آثاره بالية، فالأطلال هي الديار التي كانت في سابق عهدها عظيمة وما كان لها إلا الاضمحلال والدمار، وخلت من كل سكن وانتابها الوحشة.. فقط بقايا رماد تبعث الأسى في قلب من يرثيها.

أما عن قوام الصورة الشعرية عند امرئ القيس فكانت تعكس حبه للطبيعة، فلم يبالغ في التعبير أو يتكلف في لفظ ما، بل كان عفويًا دون الإخلال بالدقة، فقط عبّر عن تجربته الشعرية كغيره من شعراء عصره، ليكون شرح قصيدة امرؤ القيس فهي هي على النحو التالي:

1- استحضار الديار الخَرِب

استحضر امرؤ القيس في تلك الأبيات لوحة من مطر في مخيلته، وعني بتوضيحها جليًّا في أبياته، فقد امتزج هنا مع عوامل الطبيعة ليقوم بوصف مظاهرها التي تصدق الوصف والحال، فكيف للطبيعة أن تدمر بقايا ديار محبوبته؟ وكيف للرياح أن تعصف بها؟ أما عن المطر.. فهل جعل الديار موطنًا للخيفة والنفور، ألم يكن مصحوبًا بالبرق والرعد والضباب؟

لِمَن طَلَلٌ بَينَ الجُدَيَّةِ والجبَل

مَحَلٌ قَدِيمُ العَهدِ طَالَت بِهِ الطِّيَل

عَفَا غَيرَ مُرتَادٍ ومَرَّ كَسَرحَب

ومُنخَفَضٍ طام تَنَكَّرَ واضمَحَل

وزَالَت صُرُوفُ الدَهرِ عَنهُ فَأَصبَحَت

عَلى غَيرِ سُكَّانٍ ومَن سَكَنَ ارتَحَل

تَنَطَّحَ بِالأَطلالِ مِنه مُجَلجِلٌ

أَحَمُّ إِذَا احمَومَت سحَائِبُهُ انسَجَل

بِرِيحٍ وبَرقٍ لَاحَ بَينَ سَحَائِبٍ

ورَعدٍ إِذَا ما هَبَّ هَاتِفهُ هَطَل

فَأَنبَتَ فِيهِ مِن غَشَنِض وغَشنَضٍ

ورَونَقِ رَندٍ والصَّلَندَدِ والأَسل

وفِيهِ القَطَا والبُومُ وابنُ حبَوكَلِ

وطَيرُ القَطاطِ والبَلندَدُ والحَجَل

وعُنثُلَةٌ والخَيثَوَانُ وبُرسُلٌ

وفَرخُ فَرِيق والرِّفَلّةَ والرفَل

وفِيلٌ وأَذيابٌ وابنُ خُوَيدرٍ

وغَنسَلَةٌ فِيهَا الخُفَيعَانُ قَد نَزَل

وهَامٌ وهَمهَامٌ وطَالِعُ أَنجُدٍ

ومُنحَبِكُ الرَّوقَينِ في سَيرِهِ مَيَل

كيف اجتمعت كل تلك العوامل الطبيعية لتعصف بديار محبوبته وتعصف بقلبه معها، فهو الآن يعيش حالة من الرفض ويستشعر الوحشة بكافة جوارحه، أما عن حال الديار.. فها هي مضمحلة تجد النبات في جنباتها، وأصبحت موطنًا للحيوانات والحشرات، لاسيما البوم، الذي رمز الشاعر إليه ليدلل على مدى الخراب والدمار الذي حلّ ويوضح أنه متشائم تمامًا لا يرى في الصورة إلا أكثرها الظلام الدامس.

اقرأ أيضًا: شعر اعتذار للحبيب نزار قباني

2- ذكرى المحبوبة

اقترب الشاعر من الأطلال.. وتعرف عليها من فوره، فقفز قلبه رعبًا وهو ينعتها بـ “ديار سلمى” محبوبته التي يبكي الآن على أطلالها، فلم تجد دموعه المكنونة مجالًا إلا أن تنهمر على وجنتيه كالأنهار الجارفة في وقت الطوفان، فقد تذكرها وتذكر فراقها، تلك التي فارقته وبعدت عن قلبه ولم تعلم أنها ذات مستقر فيه.. وفي أبيات قصيدة امرؤ القيس فهي هي نأتِ بتلك الأبيات:

فَلَمَّا عَرَفت الدَّارَ بَعدَ تَوَهُّمي

تَكَفكَفَ دَمعِي فَوقَ خَدَّي وانهمَل

فَقُلتُ لَها يا دَارُ سَلمَى ومَا الَّذِي

تَمَتَّعتِ لَا بُدِّلتِ يا دَارُ بِالبدَل

لَقَد طَالَ مَا أَضحَيتِ فَقراً ومَألَف

ومُنتظَراً لِلحَىِّ مَن حَلَّ أَو رحَل

ومَأوىً لِأَبكَارٍ حِسَانٍ أَوَانسٍ

ورُبَّ فَتىً كالليثِ مُشتَهَرِ بَطَل

إثر معانيه اللفظية الرائعة التي استعان بها في قصائده صنفه النقاد كواحد من فحول شعراء الجاهلية، ولم لا وهو أول من بكى واستبكى على الأطلال، وأول من صدق في تصوير الطبيعة ومزجها مع وجدانه.

اقرأ أيضًا: شعر جاهلي عن الحب من طرف واحد

3- لوحة الفخر

هنا انتقل الشاعر إلى غرض آخر غلب عليه في تلك الأبيات، وهو الفخر.. فقد ذكر أنه فارسًا مغوارًا وهو من أحبته النساء ورغم ذلك لم يجد في قلبه إلا سلمى، وأصبح متيمًا في عشقها، وكانت أبيات قصيدة امرؤ القيس فهي هي على النحو التالي:

لَقَد كُنتُ أَسبى الغِيدَ أَمرَدَ نَاشِئ

ويَسبِينَني مِنهُنَّ بِالدَّلِّ والمُقَل

لَيَالِيَ أَسبِى الغَانِيَاتِ بِحُمَّةٍ

مُعَثكَلَةٍ سَودَاءَ زَيَّنَهَا رجَل

كأَنَّ قَطِيرَ البَانِ في عُكنَاتِهَ

عَلَى مُنثَنىً والمَنكِبينِ عَطَى رَطِل

تَعَلَّقَ قَلبي طَفلَةً عَرَبِيَّةً

تَنَعمُ في الدِّيبَاجِ والحَلى والحُلَل

لَهَا مُقلَةٌ لَو أَنَّهَا نَظَرَت بِهَ

إِلى رَاهِبٍ قَد صَامَ لِلّهِ وابتَهَل

لَأَصبَحَ مَفتُوناً مُعَنَّى بِحُبِّهَ

كأَن لَم يَصُم لِلّهِ يَوماً ولَم يُصَل

أَلا رُبَّ يَومٍ قَد لَهَوتُ بِذلِّهَ

إِذَا مَا أَبُوهَا لَيلَةً غَابَ أَو غَفَل

فَقَالَتِ لِأَترَابٍ لَهَا قَد رَمَيتُهُ

فَكَيفَ بِهِ إن مَاتَ أَو كَيفَ يُحتَبَل

أَيخفَى لَنَا إِن كانَ في اللَّيلِ دفنُهُ

فَقُلنَ وهَل يَخفَى الهِلَالُ إِذَا أَفَل

إثر فخره وشجاعته تلك، كانت معاناته من محبوبته، فقد طالب قبيلته “بني كندة” أخذ ثأره من تلك التي قتلته.. فقد استعملت سلاح الحب ضده، ونالت من كبريائه نصيبًا وافيًا.

اقرأ أيضًا: شرح قصيدة المواكب لجبران خليل جبران

4- الغزل في المحبوبة

لم يقتصر شاعر المعلقات على غرض شعريّ واحد، بل جاء بالمقطع الغزلي الصريح، فأخذ واصفًا فتاته.. ذات العينين الساحرتين، من تُلهب بهما أعين الناظرين ليكنون على فورهم إعجابًا وحبًّا، تلك الأعين التي جعلته يُحادثها خلسة في وقت صبابته، فكم هو جريء إلى هذا الحد.. فقد وصف مباراة الشطرنج بينه وبين سلمى، غلبها بالفيل، ولكل حركة قُبلة، وأعلن أنه قبّلها مائة مرة، ووصف هذا العناق الأخير بينهما، الذي بلغت شدته إلى انفراط عقدها، وأتت الأبيات كما يلي:

قَتَلتِ الفَتَى الكِندِيَّ والشَّاعِرَ الذي

تَدَانَت لهُ الأَشعَارُ طُراً فَيَا لَعَل

لِمَه تَقتُلى المَشهُورَ والفَارِسَ الذي

يُفَلِّقُ هَامَاتِ الرِّجَالِ بِلَا وَجَل

أَلَا يا بَنِي كِندَةَ اقتُلوا بِابنِ عَمِّكم

وإِلّا فَمَا أَنتُم قَبيلٌ ولَا خَوَل

قَتِيلٌ بِوَادِي الحُبِّ مِن غيرِ قَاتِلٍ

ولَا مَيِّتٍ يُعزَى هُنَاكَ ولَا زُمَل

فَتِلكَ الَّتي هَامَ الفُؤَادُ بحُبِّهَ

مُهفهَفَةٌ بَيضَاءُ دُرِّيَّة القُبَل

ولى وَلَها في النَّاسِ قَولٌ وسُمعَةٌ

ولى وَلَهَا في كلِّ نَاحِيَةٍ مَثَل

كأَنَّ عَلى أَسنَانِها بَعدَ هَجعَةٍ

سَفَرجلَ أَو تُفَّاحَ في القَندِ والعَسَل

رَدَاحٌ صَمُوتُ الحِجلِ تَمشى تَبختر

وصَرَّاخَةُ الحِجلينِ يَصرُخنَ في زَجَل

غمُوضٌ عَضُوضُ الحِجلِ لَو أَنهَا مَشَت

بِهِ عِندَ بابَ السَّبسَبِيِّينَ لا نفَصَل

فَهِي هِي وهِي ثمَّ هِي هِي وهي وَهِي

مُنىً لِي مِنَ الدُّنيا مِنَ النَّاسِ بالجُمَل

أَلا لا أَلَا إِلَّا لآلاءِ لابِثٍ

ولا لَا أَلَا إِلا لِآلاءِ مَن رَحَل

فكَم كَم وكَم كَم ثمَّ كَم كَم وكَم وَكَم

قَطَعتُ الفَيافِي والمَهَامِهَ لَم أَمَل

وكافٌ وكَفكافٌ وكَفِّي بِكَفِّهَ

وكافٌ كَفُوفُ الوَدقِ مِن كَفِّها انهَمل

فَلَو لَو ولَو لَو ثمَّ لَو لَو ولَو ولَو

دَنَا دارُ سَلمى كُنتُ أَوَّلَ مَن وَصَل

وعَن عَن وعَن عَن ثمَّ عَن عَن وعَن وَعَن

أُسَائِلُ عَنها كلَّ مَن سَارَ وارتَحَل

وفِي وفِي فِي ثمَّ فِي فِي وفِي وفِي

وفِي وجنَتَي سَلمَى أُقَبِّلُ لَم أَمَل

وسَل سَل وسَل سَل ثمَّ سَل سَل وسَل وسَل

وسَل دَارَ سَلمى والرَّبُوعَ فكَم أَسَل

وشَنصِل وشَنصِل ثمَّ شَنصِل عَشَنصَلٍ

عَلى حاجِبي سَلمى يَزِينُ مَعَ المُقَل

حِجَازيَّة العَينَين مَكيَّةُ الحَشَ

عِرَاقِيَّةُ الأَطرَافِ رُومِيَّةُ الكَفَل

تِهامِيَّةَ الأَبدانِ عَبسِيَّةُ اللَمَى

فَقالت أَنَا كِندِيَّةٌ عَرَبيَّةٌ

فَقُلتُ لَها حاشَا وكَلا وهَل وبَل

فقَالت أَنَا رُومِيَّةٌ عَجَمِيَّة

فقُلتُ لها ورخِيز بِباخُوشَ مِن قُزَل

قد وصلنا إلى مقطع قصيدة امرؤ القيس فهي هي، والذي كان الأكثر شهرة على الإطلاق، فقد عزم على استخدام كلمات مشابهة ذات معان مختلفة، والمقصود منها أن الحب قد قتله، فما من مُحب إلا ويصيبه اليأس في نهاية المطاف، علاوة على أنه أكثر من استعمال “كم الخبرية” للتأكيد على عمق الحب بينه وبين سلمى.

لم تخلُ أبيات قصيدة امرؤ القيس فهي هي من الغزل الصريح في محبوبته، فعلى الرغم من أن أبياته انطلقت من البكاء على الأطلال إلا أنها انتهت بمقطع غزليّ فريد.