شرح قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل

نشرح قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل في سطور قليلة، فكم أعزّ الله قومًا بعزّ لغتهم، وقد كانت ومازالت لغتنا العربية الأصيلة مدعاة للفخر في كل الأزمنة، ومن نشأ على حب الأدب يصير من الفصاحة أبلغها، فيكون من الفهم والإدراك البيّن لبيت شعر كتبه شاعر مخضرم بوجدانه العميق وفصاحته اللغوية، كما هو الحال إن تطرقنا إلى قصيدة لأحمد شوقي أمير الشعراء.. في الواقع العربي.

نص قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل

تُنسب تلك القصيدة إلى أحمد شوقي وهو أشهر الشعراء ويلقب بأميرهم، ولد وتوفي في القاهرة، علاوة على أنه رائد المسرح الشعري صاحب ديوان “الشوقيات”، بالطبع لا يعتبر النص في تلك القصيدة كاملًا حيث إن أبياتها تصل إلى 264 بيت، وقد اتبع فيها شوقي قافية الهمزة، كما أنها تصنف وفقًا للبحر الخفيف من البحور الشعرية في اللغة.. وأبياتها جاءت على النحو التالي:

هَمَّتِ الفُلكُ وَاِحتَواها الماءُ

وَحَداها بِمَن تُقِلُّ الرَجاءُ

ضَرَبَ البَحرُ ذو العُبابِ حَوالَيها

سَماءً قَد أَكبَرَتها السَماءُ

وَرَأى المارِقونَ مِن شَرَكِ الأَرضِ

شِباكاً تَمُدُّها الدَأماءُ

وَجِبالاً مَوائِجاً في جِبالٍ

تَتَدَجّى كَأَنَّها الظَلماءُ

وَدَوِيّاً كَما تَأَهَّبَتِ الخَيلُ

وَهاجَت حُماتَها الهَيجاءُ

لُجَّةٌ عِندَ لُجَّةٍ عِندَ أُخرى

كَهِضابٍ ماجَت بِها البَيداءُ

وَسَفينٌ طَوراً تَلوحُ وَحيناً

يَتَوَلّى أَشباحَهُنَّ الخَفاءُ

نازِلاتٌ في سَيرِها صاعِداتٌ

كَالهَوادي يَهُزُّهُنَّ الحُداءُ

رَبِّ إِن شِئتَ فَالفَضاءُ مَضيقٌ

وَإِذا شِئتَ فَالمَضيقُ فَضاءُ

فَاِجعَلِ البَحرَ عِصمَةً وَاِبعَثِ الرَحمَةَ

فيها الرِياحُ وَالأَنواءُ

أَنتَ أُنسٌ لَنا إِذا بَعُدَ الإِنسُ

وَأَنتَ الحَياةُ وَالإِحياءُ

يَتَوَلّى البِحارَ مَهما اِدلَهَمَّت

مِنكَ في كُلِّ جانِبٍ لَألاءُ

وَإِذا ما عَلَت فَذاكَ قِيامٌ

وَإِذا ما رَغَت فَذاكَ دُعاءُ

فَإِذا راعَها جَلالُكَ خَرَّت

هَيبَةً فَهيَ وَالبِساطُ سَواءُ

وَالعَريضُ الطَويلُ مِنها كِتابٌ

لَكَ فيهِ تَحِيَّةٌ وَثَناءُ

يازَمانَ البِحارِ لَولاكَ لَم تُفجَع

بِنُعمى زَمانِها الوَجناءُ

فَقَديماً عَن وَخدِها ضاقَ وَجهُ الأَرضِ

وَاِنقادَ بِالشِراعِ الماءُ

وَاِنتَهَت إِمرَةُ البِحارِ إِلى الشَرقِ

وَقامَ الوُجودُ فيما يَشاءُ

وَبَنَينا فَلَم نُخَلِّ لِبانٍ

وَعَلَونا فَلَم يَجُزنا عَلاءُ

وَمَلَكنا فَالمالِكونَ عَبيدٌ

وَالبَرايا بِأَسرِهِم أُسَراءُ

قُل لِبانٍ بَنى فَشادَ فَغالى

لَم يَجُز مِصرَ في الزَمانِ بِناءُ

لَيسَ في المُمكِناتِ أَن تُنقَلَ الأَجبالُ

شُمّاً وَأَن تُنالَ السَماءُ

أَجفَلَ الجِنُّ عَن عَزائِمَ فِرعَونَ

وَدانَت لِبَأسِها الآناءُ

شادَ ما لَم يُشِد زَمانٌ وَلا أَن

شَأَ عَصرٌ وَلا بَنى بَنّاءُ

هَيكَلٌ تُنثَرُ الدِياناتُ فيهِ

فَهيَ وَالناسُ وَالقُرونُ هَباءُ

وَقُبورٌ تَحُطُّ فيها اللَيالي

وَيُوارى الإِصباحُ وَالإِمساءُ

تَشفَقُ الشَمسُ وَالكَواكِبُ مِنها

وَالجَديدانِ وَالبِلى وَالفَناءُ

زَعَموا أَنَّها دَعائِمُ شيدَت

بِيَدِ البَغيِ مِلؤُها ظَلماءُ

فَاِعذُرِ الحاسِدينَ فيها إِذا لا

موا فَصَعبٌ عَلى الحَسودِ الثَناءُ

دُمِّرَ الناسُ وَالرَعِيَّةُ في

تَشييدِها وَالخَلائِقُ الأُسَراءُ

أَينَ كانَ القَضاءُ وَالعَدلُ وَالحِكمَةُ

وَالرَأيُ وَالنُهى وَالذَكاءُ

وَبَنو الشَمسِ مِن أَعِزَّةِ مِصرٍ

وَالعُلومُ الَّتي بِها يُستَضاءُ

فَاِدَّعَوا ما اِدَّعى أَصاغِرُ آثينا

وَدَعواهُمُ خَناً وَاِفتِراءُ

وَرَأَوا لِلَّذينَ سادوا وَشادوا

سُبَّةً أَن تُسَخَّرَ الأَعداءُ

إِن يَكُن غَيرَ ما أَتَوهُ فَخارٌ

فَأَنا مِنكَ يا فَخارُ بَراءُ

لَيتَ شِعري وَالدَهرُ حَربُ بَنيهِ

وَأَياديهِ عِندَهُم أَفياءُ

ما الَّذي داخَلَ اللَيالِيَ مِنّا

في صِبانا وَلِلَّيالي دَهاءُ

فَعَلا الدَهرُ فَوقَ عَلياءِ فِرعَونَ

وَهَمَّت بِمُلكِهِ الأَرزاءُ

أَعلَنَت أَمرَها الذِئابُ وَكانوا

في ثِيابِ الرُعاةِ مِن قَبلُ جاؤوا

وَأَتى كُلُّ شامِتٍ مِن عِدا المُلكِ

إِلَيهِم وَاِنضَمَّتِ الأَجزاءُ

وَمَضى المالِكونَ إِلّا بَقايا

لَهُمُ في ثَرى الصَعيدِ اِلتِجاءُ

فَعَلى دَولَةِ البُناةِ سَلامٌ

وَعَلى ما بَنى البُناةُ العَفاءُ

وَإِذا مِصرُ شاةُ خَيرٍ لِراعي السَوءِ

تُؤذى في نَسلِها وَتُساءُ

قَد أَذَلَّ الرِجالَ فَهيَ عَبيدٌ

وَنُفوسَ الرِجالِ فَهيَ إِماءُ

فَإِذا شاءَ فَالرِقابُ فِداهُ

وَيَسيرٌ إِذا أَرادَ الدِماءُ

وَلِقَومٍ نَوالُهُ وَرِضاهُ

وَلِأَقوامِ القِلى وَالجَفاءُ

فَفَريقٌ مُمَتَّعونَ بِمِصرٍ

وَفَريقٍ في أَرضِهِم غُرَباءُ

إِن مَلَكتَ النُفوسَ فَاِبغِ رِضاها

فَلَها ثَورَةٌ وَفيها مَضاءُ

يَسكُنُ الوَحشُ لِلوُثوبِ مِنَ الأَسرِ

فَكَيفَ الخَلائِقُ العُقَلاءُ

ذُكر أن قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل في المؤتمر الشرقي الدولي المنعقد في جنيف 1894، وهي من أفضل القصائد في ديوان شوقي وقد لاقت رواجًا مُبهرًا في زمانها.. ولنا أن نشرح ما تيسر منها في الفقرات التالية.

اقرأ أيضًا: شعر جاهلي عن الحب من طرف واحد

شرح قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل

لمّا كانت تلك الأبيات الشعرية من مطولات شوقي، فإنه وصف جزئها الأول أنه ملحمة شعرية، وقد تحدث فيها عن تاريخ مصر والنكبات التي تعرضت إليها، ولم يتناول النكسات فحسب إنما الصفحات المضيئة في التاريخ المُشرف، على أيدي ملوك عظام كانوا من القوة ما مكنتهم من التصدي للأعادي.

كما أنه تحدث عن الأديان السماوية جميعًا، ودخول الإسلام في مصر.. ومن ثم تطرق في الحديث عن الأيوبيين، في ترتيب زمني منه دقيق فلم يدع حدثًا إلا وتناوله، لتكون تلك القصيدة بمثابة منظومة تاريخية أكثر من كونها قصيدة شعرية.. وقد أشار إلى أن الليالي قد ولّت وانتهى زمن الفراعنة القدماء، بتراثهم العريق الذي لا يضاهيه تاريخ آخر، فلا يشبههم عالم من العوالم، كالأهرام مثلًا تلك التي لا يُمكن بناؤها كما بناها الفراعنة.

قد بدأ الأسلوب القصصي في قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل من البيت الاثنين والخمسين، وهو يعرض تاريخ الفراعنة وحروب قمبيز الفارسي، ثم التطرق إلى قصة موسى مع فرعون، ونبيّ الله عيسى، ومحمد أشرف الخلق –صلى الله عليه وسلم- من ثم عني بالتطرق إلى عواصم الدول الإسلامية.

اقرأ أيضًا: شعر اعتذار للحبيب بالعامية

قصة مطلع القصيدة “همت الفلك واحتواها الماء”

بما أن أول التاريخ معروف للعيان بأنه الطوفان، نجد أن شوقي بدأ بوصف الطوفان، الذي فجر عيون الأرض بمائه المنهمر، كما يدلل فيها على أن البحر من آيات الله تعالى مما يدفع المرء على تمجيده سبحانه.

يبدأ الشاعر في مطلع قصيدته بذكر تحرك البواخر فوق المياه بكل ما تحمله من أناس ومتاع، جميعهم يأملون من الله السلامة في الرحلة، تفاديًا من موج البحار العالي الذي يكاد يصل إلى السماء من شدة ارتفاعه الشاهق، في ظل خوف الليل وشدة حلكته.

إنها الأمواج التي شبهها الشاعر بصخب الخيول أثناء المعارك، لذا يسأل المسافرين ربهم أن يجعل لهم البحر ملاذًا آمنًا من الهلاك، وكأن البحار العريضة كتاب فيه كل الثناء على الله وشكره على نعمه.. هكذا جاءت مقدمة شوقي في قصيدته الشعرية كتمهيد واف للأحداث التاريخية الواقعة في وادي النيل.

في قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل جاء أسلوب شوقي الإخباري أكثر من القصصي، حيث كان يسرد الأحداث التاريخية دون أن يأخذ في اعتباره المنوال القصصي الشعري.