الأستاذ الدكتور/ أيمن تعيلب

ليلة طويلة

كان شتاءا قاسيا غريبا على قرية الكفر القديم،دخل الليل مبكرا، طمس بظلمته الجاسية المحلولكة البيوت والطرقات وأطفىأ شواشى أشجار الكافور العتيقة التى تطوق بيتنا من كل ناحية، ورشرش الأسرار المرعبة فى كل مكان،حتى بدت كل الكائنات من حولى ملففة بسواد مضبب كأنها أشباح مرتابة شاردة فى الطرقات،غامت السماء بقطع السحاب المعتم تركض تتبعها خيول الرعد المزمجرة، نتكوم فى بيتنا القديم أحس أن قلبى يتخلع من صدرى كلما اصطكت حوافر خيول الرعد بسقف السماء المصطخب،قعقعة وبرق ونبال مطر منهمر،انزويت فى حجرتى يغطينى الرعب والفزع من هول قعقعة المطر التى تخللت فجوات الشبابيك وشروخ الأبواب،هروت أمى إلى صفيحة الجاز التى خزنتها من بائع الجاز الحاج متولى عبأنا بطن لمبة عشرة كان زجاج اللمبة أسودا منطمسا فأدخلت أمى في بطنها لفافة ورق مبلل ثم بللته بريقها الناشف تلوكه فى بطن اللمبة يمنة ويسرة حتى التمعت الزجاجة قليلا ووقفت كشمعة منهكة تحارب صخب البرد وقعقعة المطر،أصخنا لحظات نتسمع نبال المطر المجنونة ترشق الشبايبك والأبواب كأنها خطاطيف مشتعلة تحاول الانقضاض علينا،نشعت عروق السقف ببقع كبيرة مبللة ترتسم على أسارير أمى أهوال الفزع والجزع،أحسسنا للحظة كأن القيامة ستقوم الليلة،كان سقف بيتنا من الحطب المجفف وعيدان الذرة الناشفة وبعض الخشب القديم،غيلان الرعود وقعقعة البروق تحاصر أسماعنا فتتكوم أجسادنا الطرية الصغيرة وتنزوى أكثر وأكثر،تتفجر هواجسنا بالخوف سقف بيتنا ينشع ببقع مبللة تكبر كل دقيقة وكلما علا أزيز صوت الماء تكومت البقع على هيئة هالات سوداء داكنة سارحة على السقف والجدران، تخلعت قلوبنا من صدورنا خوف أن يسقط فوقنا السقف فنموت جميعا دون أن يدرى بنا أحد،هرولت أمى فى بطولة وبسالة خارج الحجرة فأحضرت حلة الطبخ الكبيرة التى ورثتها عن جدتى ووضعتها تحت فتحات السقف تتلقى نبال المطر النازف من حطب السقف،وكلما علا منسوب المطر فى الحلة الضخمة كلما علا منسوب الفزع فى صدورنا،حتى بلغت القلوب الحناجر تقرأ أمى سورة القيامة ثم تتبعها بسوررة الملك،ثم تدعو ياخفى الألطاف نجنا مما نخاف،يارب ارحم هؤلاء اليتامى المساكين،من لهم غيرك يارب!! أمسكت أمى باللمبة الصفيح السوداء ذى الفتيلة الطويلة المصبوغة بالسواد،هرولت إلى وسط الدار وعواء الهواء يعبث بخيط اللمبة المترنح فيتصاعد منها الدخان المغبر ،أمسكت أمى بوابور ديماس الذى اشتراه أبى لنا قبل أن يموت بسنتين،تشعل أمى الوابور نتحلق حول النيران المنبعثة من طربوشه المعفر بالصماد نمد أكفنا المتجمدة التى أهلكها زمهرير البرد،نتعزى بالنظر لشعلته المائجة باللهب وهى تتحول من الأحمر القانى فالبنفسجى القاتم فالزرقة الغامضة نفرك أكفنا ونحدق طويلا فى الشعلة المتلظية المنفوشة تمد إلى أرواحنا وقلوبنا خيوطا من الدفء المشوب بالونس والدعة والفرح الخفى،تنادينى أمى بأن أحكم غلق الشبابيك والأبواب خوفا من وحش الهواء الكاسر، فليلنا سيكون طويلا،لكن يفاجئنا صوت المؤذن يرفع صلاة العصر فتصيبنا جميعا الدهشة أننا لازلنا فى عز النهار ولننا نمارس كل طقوس الليل الطويل.

 

سرير الكون

صديقى الذى سافرت إلى هناك،أكتب لك عن سريرنا الواسع الذي كنا ننام عليه معا فى طفولتنا البعيدة،كنا نرسم على أعمدته العالية زركشات طفولتنا المحلقة،ونطلق فى جوانبه فراشات تهدل فى نسوجه الطرية الممراحة،نلونها برخام الطفولة المشع،كان الوفاء أبيضا،وبازلت الروح مشعا وهاجا،الآن لاتسعنا كل أسرة العالم؟! أين سريرنا الكونى الصغير؟هل تتذكر مس ملاءته،زركشات أعمدته،تلاوين ألواحه،رائحة الطفولة النائمة فوق فراشات مخداته،سقف الحجرة الملون بخيالات أشواقنا البعيدة،كان السقف مراكب وشموس وعرائس وأقمار،ومدى رششناه بحليب برائتنا، الآن كل أسرة العالم لا تسع جسمي وجسمك المترهلين؟!صرنا بلا سقف فانفجرت صحارى القلب بصهد الفقدان وتهدلت جباهنا تحت جمر لهيب شمس مسلحة،بعد أن غربت شمس أمي الخالدة فى أفق أقرأ فيه ليل نهار (وال….. والليل إذا سجى ).

 

مولد النبى

كان مولد النبى الشريف يوما مشهودا من أيام طفولتى البعيدة،سحر وانتظار وتصوف وروحانية غامضة محببة،فما أن يطل علينا بشاير نور المولد حتى يحضر الجميع أوراقا حمراء وبيضاء ثم يقطعونها قطعا دقاقا صغيرة رهيفة على هيئة قصاقيص مربعة أو مستطيلة ثم يثبتونها فى خيط من عجين الدقيق ثم يفردون الخيط معلقة به القصاقيص أمام البيوت أو فوق المصاطب أو فى الباحات الواسعة أو فوق واجهات البيوت هذه القصاصيص الملونة الزاهية الرفافة بالأحمر والأبيض يطلقون عليها اسم الصارى،وكان الشيخ ابراهيم أبو الصاوى رحمه الله فى مطلع كل مولد نبوى يوم الإثنين من شهر ربيع الأول ميلاد رسولنا الأعظم صلوت ربى عليه،يثبت الشيخ أمام باحة بيته الوسيع المطل على مصرف القرية راية خضراء يرفعها على عمود من خشب،ولا أدرى لماذا كان الحنين يعتصرنى إلى ميعاد انتصاب الراية،فبمجرد انتصابها رفافة فى بطن السماء تطير روحى إلى أكوان أخرى من الجذل الروحى العلوى ينبث فى جوارحى وحناياى كسحر خفى فأجد لذة فى نفسى كلذة الطيران فى السماء،وكنت أنتظر هذا اليوم المشهود فى لهفة مابعدها لهفة،أتمنى أن يجرى عمرى فأسبق الزمن لألقى يوم الفرح الروحى العظيم،ولذلك كنت أسأل الشيخ إبراهيم كثيرا فى كل مرة يأتى فيها إلى بيتنا ليفسر لأمى أحلامها ورؤاها، وكان الشيخ موقرا عند أمى اسأل الشيخ متى يأتى يوم مولد النبوى؟ فهو يوم الفرح المشهود والانجذاب إلى عالم غير هذا العالم الذى نحياه فيجيبنى بابتسامة حانية قريبا إن شاء الله يابنى،فلم أكن أعرف فى هذه السن الطرية حسابات الشهور ومواعيد المواسم والمناسبات الدينية،راية رفافة خضراء كأنها طير كونى عظيم فر من أساطير الخيالات القديمة يظل مرفرفا فى الباحة الواسعة يتوسط الراية هلال رقيق ينحنى عليها نائما فى رهافة كقوس فضى يلتمع بالأسرار والمعجزات،ولا أدرى لماذا كنت أعتقد فى طفولتى البعيدة أن هذه الراية قد صنعها الشيخ إبراهيم من أعواد الجنة ثم صبغها من خضرتها المنسابة فى وديان الخضار السماوى فما أن يثبت الشيخ رايته فى التراب حتى ترفرف روحى فى السماء مترعة بالفرح والشوق والرضا.
فى ليلة مولد النبى يحتشد كل أطفال القرية على هيئة حلقات ودوائر حول عمود النور المنتصب فور أن تصبغ شمس العصر السماء بشعاعات شجية مودعة،فلم يكن فى بلدتنا الكفر القديم كهرباء وكانت جل البيوت تقاد بلمبات الصفيح أو لبمات نمرة عشرة وخمسة أما الأثرياء فكانوا يشعلون الكلوبات التى تتجلى كنجوم معلقة أمام البويت برتينتها المشعة المشتعلة،فما أن يقبل الليل ويصلى الجميع المغرب يشعل الشيخ إبراهيم الكلوب فوق الراية المرفرفة وسط الظلام المحيط بالجميع فينتشر الضوء الخافت مظللا الجميع بشعاع خافت حالم مشوبا ببعض ضوء القمر المجلو وأنوار النجوم الملتمعة المتناثرة فى السماء كأنها نشيد مبعثر الأوزان،ثم توزع أطباق البقلاوة وأطباق الرز باللبن المعطر بماء اورد على الجميع فيهرع الأطفال إلى اختطافها كما تتخطف الحمامات الطليقة الحب المتساقط المتناثر على الأرض،نأكلها فى شوق ملهوف كأنها من طعمها المحبب الودود لاتنزلق إلى أفواهنا بل إلى قلوبنا وأرواحنا مباشرة،طعم لاأنساه أبدا ظل منحفرا فى روحى كلما رأيت علامة من علامات مولد البنى،وما إن ينتهى الجمع المحتشد من الطعام حتى يتجمع الناس أفواجا إثر أفواج فى صفوف ودوائر يذكرون الله فى غمغمة رقيقة وترنم خفيت وكانت جملة المديح الأثيرة تبدأ بعبارة( ليلة نبينا فى ربيع الأول)،ثم تتبعها قصائد لم أكن أعرف معناها ولا صاحبها ولكنها كانت تنزلق على أرواحنا الهيمانة وقلوبنا العطشانة كاللبن والندى يسرى دفئهما الخفى إلى جوانحنا الطرية مستغرقة ذاهلة فى الإيقاع الشجى الحنون:
زدنى بفرط الحب فيك تحيرا
وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة
فاسمح ولا تجعل جوابى لن ترى
أنتشى بسماع الصوت وأنا لا أفهم أى كلمة من كلمات القصيدة فهى المرة الأولى فى حياتى التى أسمع فيها هذا الكلام لكننى همت فى واديه العجيب،كما أننى لم أكن أعرف معنى الشعر الصوفى، ولا أعرف سيدى الشاعر عمر ابن الفارض قائل القصيدة وهو سيد العارفين العاشقين وقطب الصوفيين،فلايوجد وقت للفهم البطىء المتعقل وسط اشتعال الصوت وصهللة الإيقاع وتلهب الأشواق،واندفاق شوق الطفولة للتوق الغامض الشهى، غرقت فى الإيقاع الراقص كشلالات من ماء نور منهمر،ثم يعلو صوت الصييت الذاكر شجيا مبغوما ببحة الشوق فتخرج الأبيات الشعرية منغومة مصطفة كنشيد طرى متسق تتعانق فيه الأصوات والأرواح والأجساد ثم تدور الرؤوس الذاكرة فى حركات بطيئة منظمة يمنة ويسرة فى هينمة محببة دافئة،ثم تعلو الأصوات قليلا قليلا فينتصب الجمع وقوفا يصطفون فى حلقات مستديرة بصورة عفوية لادخل لهم فيها حركة نابعة من أرواحهم وكنت أظن دوما أن الخط الخلاق الأصيل فى الكون هو القوس لا الخط المستقيم فالعمر طفولة فشباب فشيخوخة ثم موت ثم بعث وخلود،يصطف جمع الشوق فى أقواس مستديرة حانية ترتمى رؤوسهم إلى اليمين تارة وإلى اليسار تارة أخرى كأنهم طيور تستعد للإقلاع البعيد ثم تنخلع أرواحهم عن أجسادهم رويدا رويدا فى حركات روحية لولبية مندفقة ثم يعلو صوت الشيخ بالغناء المصهلل متنقلا من النشيد إلى النشيج ،فتصخب حركة الأجساد الذاكرة اللاهثة كأنها السيل المنسكب تكاد أجسادهم المتطوحة فى الهواء أن تنكب منهم على جوانب الأرض من تحتهم أو تنفلت منهم مرفرفة فى أجواز الفضاء القصى،يرتمون كالبرق المشع المارق يمنة ويسرة لا تكاد تستبين ملامح أجسادهم الفوارة فى هيئة محددة واضحة،فهم أشباح متطوحة مابين شفوف وغموض،وانجلاء وانحجاب،فلا تدرى منهم الصوت من الجسد من الروح بعد أن شفوا ورقوا حتى اشتعلوا فى أثير التوق،ثم تلاشوا موجات من موسيقى ففارقوا أجسادهم ووجودهم الأرضى وطاروا نجيا فى سماوات الفرح والشوق والانجذاب والتطوح العجيب.وكان بعضهم يسقط على الأرض مغشيا عليه مرتعش الجسد مهتز الفرائص فيتجمع حوله الأطفال هلعين فزعين يستولى عليهم العجب المشوب بالاستغراب والرعب،ويظل الأسير العاشق متطوحا فى دوامات الشوق والموسيقى حتى تؤوب له روحه المسافرة. ولكننا نحن الأطفال لانؤوب أبدا من رحلة الشوق والتوق.