التناص وإثراء النص،عمرو التركي وديوانه: “ما بعد الطوفان”.
ينقسم ديوان ما بعد الطوفان إلى أربعة أقسام:
1- قبل ما قبل الطوفان.
2- ما قبل الطوفان.
3- ما بعد الطوفان.
4- ما قبل الطوفان.
أما القسم الأول:
فيدور حول التعبير عن مشاعر الحب ببساطتها لا سيما للحبيبة؛ كما تمتزج مشاعر الحب للحبيبة والوطن في قصيدتي: “حضنك وطن”، وقصيدة: “مش بغني غير بلادي”، وهو الخط الذي يسير عليه الديوان في كثير من قصائده.
القسم الثاني والثالث:
فنجد الشاعر يركز على النقد الاجتماعي والتعبير عن الهموم الجمعية ورصدها بمرارة وحزن جليين. يقول في قصيدة: “قبل ما يفوت الأوان”:
“الفرح بيحب ناسه
اللى أصلًا فرحانين
واما ييجى للغلابة
يبقى شايل ألف طين
قوللى بس ازاى هنفرح
واحنا أصلًا ميِّتين
أفتكر إنى جاوبتك
تفتكر أنا ليه حزين … ؟”.
ونجد في المقطع السابق فناءً في المجموع، والتحدث بلسانهم، ولغاتهم وطريقتهم في التعبير عن الألم مثل: “الفرح بيحب ناسه”، وفي: “احنا أصلًا ميتين”.
ولغة المقطع مباشرة جدًّا وتكاد تخلو من التصوير، وهذا الكلام لا يخص ذلك المقطع فحسب بل نجد أن الشاعر في زحمة تلك الهموم وكثرتها يغرق في المباشرة والزعيق أحيانًا كثيرة.
أما في المقطع التالي للسابق، فيقول:
“يا خلايق فين عقولكم
مين بيدفع ذنب مين
من دمانا بكرة ندفع
ما احنا بردو مذنبين”.
وربما مردُّ تلك المباشرة والصوت المرتفع إلى محاولة الشاعر جذب انتباه تلك الطبقة التي يعبر عنها، وتوصيل الرسالة التي يقولها بسهولة أكبر مما جعله يقترب أكثر من لغتهم اليومية وطرائقهم في التعبير، وفي الوقت ذاته أوقعه ذلك في فخ المباشرة، فالشعر ليس إغراقًا في الإبهام، وليس كذلك إغراقًا في المباشرة، وإنما هو منزلة وسطى بينهما بطرائق إبداعية متمايزة ومبتكرة نابعة من تجربة الشاعر ذاته، ومن إدراكه وإحاطته بما يود أن يقول خلال نصه.

القسم الرابع:
وهذا القسم عبارةعن عنوان منفرد وليس به سوى علامة استفهام فحسب، ولا توجد قصائد به.
وهذا التقسيم يتماس مع احتدام الواقع والتغيرات السياسية التي عاشها جيل من الشباب وعانى منها من أوضاع متردية، وفساد وبيروقراطية، وكأن الديوان بتلك التقسيمات هو تعبير عن تلك المعاناة التي سبقت الثورة ثم عاشتها، وأخيرًا مرحلة ما قبل الطوفان الجديد وانتظاره، وبالتالي مجهولةٌ كل التوقعات والطرق التي يمكنها أن تقرأ تلك الحركات السابقة عليه.
التناص في ديوان”ما بعد الطوفان”:
تتعدد أشكال التناص في الديوان ما بين التناص الديني والتاريخي؛ وبداية من عنوان الديوان: “ما بعد الطوفان”فهو يستدعي الموروث الديني لطوفان نوح عليه السلام، والطوفان -كما جاء في مختار الصحاح- هو المطر الغالب والماء الغالب يغشى كل شيء قال تعالى: (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون).
لكن الطوفان في الموروث الديني ليس طغيان الماء فحسب، وإنما هو تطهير للأرض من رجس الكفر والشرك والظلم، والطوفان في الديوان هو نوع آخر من التطهير مستمد من الأول بشكل آخر، وهو الثورة التي تطهر الوطن من الفساد والمفسدين، فنقط الالتقاء هي التطهير من الفساد وإن اختلف شكله وصورته فالثورة طوفان من البشر الذين يسعون لاجتثاث الفساد وتحقيق العدالة والمساواة وتمكين السيادة للحق والخير في مواجهة الظلم والعدوان.
والعنوان هنا مدخل لعالم زاخر بهذا التوظيف البديع على نواح وأشكال عديدة تعكس رغبة الشاعر في الاستفادة من حكمة التاريخ وتنشيط الذاكرة الجمعية من أجل إدراك الواقع الراهن وفهمه عبر عملية الربط تلك التي يطرحها التناص في خطوطه المتشابكة في الديوان.
أولًا التناص مع الموروث الديني:
نجد في قصيدة فسيلة تعدد مستويات التناص الديني، فبداية من القرآن الكريم في قوله:
“إبلعى ياأرض دمِّك
لوقدرتى … ؟
إبلعيه .
فوق جبال الوهم رِسيِت مركب الأحزان …
صراع
بعد فترة من الطوفان …
والضياع
كنت فاكر ف السفينة طوق
حياة …”.
فالشاعر يستدعي قوله تعالى “في سورة هود، آية44″: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فدماء الشهداء هي التي تطهر الأرض في مقابل الماء، وفي إشارة للثورة وتضحياتها، ثم نجد قوله:”جبال الوهم” في إشارة للحلم الضائع، فالسفينة استقرت على الجبل الذي كان لها سلامًا وملجاً، أما في القصيدة فإن الجبال هي الأحلام الضائعة والوهم وعدم صدق الرؤية والانخداع فيما أمَّلناه، وبالتالي فإن السفينة لم تكن طوقًا للنجاة والحياة فقد تشرد كل شيء، فلم يكن ثمة شيء محسوب بدقة،فكل الأمور مشوشة، ولم يتبق سوى بذرتين فقط، هما تلك الفكرة والأمل، فكل هذه التضحيات من أجلهما لربما يجني ثمرتهما أناس آخرون أكثر وعيًا بحركة التاريخ وأعمق رؤية وأكثر جلدًا وقوة.
والتناص في القصيدة يبدأ بالقرآن الكريم وينتهي بالحديث الشريف في قوله:
“شفتوا حد كان فإيده بذرتين
كان بينبشف التراب
كان بيزرعو بمِرِوَّة
كنت بجرى بكل قوَّة
النهاردة الكل ميت
واللى عاش البذرتين”.
وهو يستدعي الحديث الشريف: “(إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ،فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها،فليَغرِسْها).
وهذه الخطوط المتقاطعة تعكس وعي الشاعر بما يريد أن يقوله، فهو يستنفر العقل والوجدان معًا عبر النص ويحاول بكل جهد أن يلفتنا إلى المأساة بكل أبعادها، ولكن لا تنتهي القصيدة نهاية سوداوية مغلقة، بل نجد أن التناص مع الحديث الشريف في النهاية فتح الباب نحو انتظار أمل جديد ربما يحييه قوم آخرون.
وهذ النوعية من التناص موجودة في عدد من القصائد بتوظيف الموروث الديني كحكاية الهدد والنبي سليمان في قصيدة “هدهد أنا”، والمسيح وفكرة الخلاص وإحياء الموات في قصيدة “الطاحونة”، وغيرهما على مدار الديوان.
ثانيًا التناص التاريخي:
نجد أن الشاعر يستدعي أحداثًا وأشخاصًا من التاريخ في محاولة لإلقاء الضوء على الواقع المعاش إثراءً للنص ذاته،وتحفيزًا للقارئ على الاعتبار، وإيقاظ تلك الذاكرة لأمة عادة ما تنسى ولا تتعلم من أخطائها إلا قليلًا. ونجد ذلك في قصيدة “التاريخ المسطول” يقول الشاعر:
“حـادثة ومشهـورة
ف الدهر مسطورة
قـريةعلى هامـش … الدنيـامقهـورة
القاضي كان مِنَّا
مِن دمِّنا ونيلنا
لكنُّه كان مذلول
الحُكم كان جاهز
الاحتلال يَحيا
والذنب عالمقتول”.
ويستدعي الشاعر حادثة دنشواي، وهي إحدى علامات الاحتلال البشعة في الظلم والتنكيل والقهر، والأفظع من ظلم المحتلين الأجانب ظلم بني الوطن، والوقوف بجانب الغرباء ضد أبناء جلدتهم وهو ما تجلى في هيئة المحاكمة حيث كان القضاة بطرس غالي وأحمد فتحي زغلول باشا، والمدعي العام هو الهلباوى باشا، وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله:
“القاضي كان مِنَّا
مِن دمِّنا ونيلنا
لكنُّه كان مذلول”
في إشارة منه إلى صنيعة الاحتلال الذي استطاع أن يستعدي أبناء الوطن على بعضهم البعض. لكن الشاعر يعود من الجديد لربط الحداث في نصه والعودة من التاريخ إلى الواقع الذي لم يتغير حتى الآن بقوله:
“الاحتلال ولَّى.
القاضي ليه لِسَّه
مكسور وليه مذلول
والقرية ليه لسَّة
مقهورةعرض وطول
والذنب ليه لِسَّة
دايمًاعلى المقتول”.
في إشارة إلى انتهاء الحدث التاريخي المتمثل في “الاحتلال”، لكن الواقع لم يتغير وبقاء الواقع بنفس البؤس والظلم سواء شخصية القاضي الظالم والقرية المقهورة الثكلى والمقتول ظلمًا، وكأن التاريخ في حالة غريبة من العربدة التي يعيد فيها نفسه بصور مختلفة وكأنه يغير أقنعته فحسب.
ونجد أن أشكال التناص تلك مع الشخوص التاريخية في قصيدة “رسالة إلى منتظَر”، يقول الشاعر:
“الخليفة
قررانُّه
يبقى جُندى فجيش هولاكو
يِأتِمِرمِنُّه
ويفتحلُه الخِزَن”
في إشارة إلى شخصية الخليفة المستعصم بالله العباسي وهولاكو قائد المغول في ذلك الوقت، الأمر الذي يلقي بظلاله وقتامته على الواقع الذي تفسد فيه الرأس وتتسبب في ضياع الأمة لا سيما بقوله: “يأتمر منه ويفتحله الخزن”، فقد تحول رأس الدولة وهو المتبوع إلى تابع للأعداء، وبائع لثروة أمته، ويفتح له خزائنه وهو مؤتمن عليها مكلف بحراستها لصرفها في إصلاح الشؤون ودفع الأعداء، لكننا نجده يسترضي بها العدو.
ويختم النص بنوع آخر من التناص وهو استدعاء الموروث الشعبي المتمثل في المثل يقول:
“الرسالةياابنى إقراها
بتَأَنِّى
بعدها
قطَّعهاعشرين ألف حِتَّة
الحيطان ….
ليهاودان”.
فالمثل: “الحيطان لها ودان” أكثر دلالة على الترهيب الممارس ضد الشعب، والكبت المتعمد لحريته.
أخيرًا فالشاعر استطاع أن يوظف ذلك المورث لخدمة نصه الشعر والاستفادة من طاقته في إثراء التجربة وربط ذلك كله بالواقعحتى وإن كثرت المباشرة على حساب الصورة في أحيان كثيرة لكن هذا لا ينفي نجاح الشاعر، ومحاولته إيقاظ العقل الجمعي من أجل إدراك جوهر المأساة وأسبابها.