قصة المخملية الحمراء

تساءل نفسها..كم تبقى في عُرف الناس من الوقت حتى تخلع ذلك اللون الأسود الذي لا يليق بها ، لكي تعود إلى ممارسة حياتها بشكل طبيعي.. فتواظب على دوامها..وتمارس عملها.. تطلق النكات..وتسترسل في ضحكات لا تخبو.. لقد ملت تلك الحالة التي يجب عليها أن تصطنعها أمام الجميع..ملت أن تجلس صامتة لساعات.. لا تتحدث مع أحد.. تكفكف دمع والدتها و ترقب صفحات أصدقائها على مواقع التواصل من هاتفها الذكي وتكتم تعليقاتها داخلها ،حتى لا يتعجب من تواصلها أحد..تكتفي فقط بالرد على عزاء الناس لها.. كلما هاتفها زملاؤها في العمل لكي يطلبوا منها العودة سريعاً .. تضطر أن تتهرب منهم آسفة وتخبرهم بأنه لم يحن الوقت بعد.. وأنها لا يجب أن تترك والدتها في هذه الحالة وتطيل الإجازة بضعة أيام أخر.. نظرت في ساعتها ..إنها الثامنة صباحاً ..فارقها النعاس مبكراً هذا اليوم.. وعلي غير العادة تستيقظ في موعد دوامها المعتاد لكن دون أن تذهب إليه.. تركت فراشها..وذهبت إلىحجرة والدتها لكي تطمئن عليها.. إنها بخير ..نائمة كملاك لا تزول براءته مهما تعددت الملوثات حوله.. أغلقت حجرتها عليها..ثم ذهبت لتفرش أسنانها وتغسل وجهها من آثار النوم.. كم الساعة الآن ؟! الثامنة والربع.. يا للملل.. ” لن أستطيع أن أظل هكذا كثيراً ” تمتمت في ضيق..ثم توجهت إلى حجرتها..وفتحت دولابها ..ارتدت ثوب الحداد المقبض.. وتحاشت النظر إلى بلوزتها الحريرية الحمراء التي تحبها كثيراً والتي أوحشها أن ترتديها..لكن الوقت لم يحن بعد..لا يجوز.. توفي والدها منذ ثلاثة أسابيع.. وعليها أن تظل عدة أشهر ملتحفة بالسواد.. تركت ورقة لوالدتها على الكومود المجاور لها تخبرها بأنها نزلت لشراء بعض حاجيات المنزل وستعود سريعاً .. حملت حقيبتها وأغلقت باب الشقة.. وانطلقت..

إلى أين ستذهب؟! تعلم أن شراء حاجيات المنزل حجة واهية للهروب من جو المنزل المقبض.. وأنها قد ضاقت ذرعًا من هذا الوضع.. نظرت إلى سيارتها الحمراء القابعة في هدوء أمام المنزل.. وقررت أن تصطحبها معها في مغامرتها الصغيرة.. فهي لم تقدها منذ عدة أيام..

أوحشها هواء البحر حينما يلفح وجهها في رقة على طريق الكورنيش وهي تقود سيارتها على أنغام “وردة” مطربتها الأثيرة إليها.. لذا فقد قررت أن تسترجع هذا الشعور .. وبالفعل استقلت سيارتها وأدارت محركها..وانطلقت.. ضغطت زر الكاسيت..لتصبحها وردة قائلة : “اشترونى واسهروا على راحتى ياما ياللى جوه قلبى علمتوا علامة واسألونى وديتى فين الابتسامة” لاتعلم لماذا قفزت صورة والدها في مخيلتها بمجرد سماع هذا الكوبليه.. لو تعلم والدتها أنها تستمع في هذا الوقت لوردة ..لنفذت فيها جريمة قتل وأسمعتها كلمات لا داعي لها عن المسئولية والحزن وفقدان الأب واحترام الموتى .. تنهدت في ضيق..ثم أطفأت الكاسيت..وقادت السيارة في صمت.. وفجأة..عادت وأدارت الكاسيت مرة أخرى ورفعت الصوت لأعلى مستوياته..كأنها تضرب بكلمات والدتها التي لم تقلها عرض الحائط..وتضرب بحزنها عرض كل الحوائط.. تلك الحوائط البالية التي تجبرها على تصنع الحزن على رجل لا تحمل له أي شعور ..لمجرد أنه فُرض عليها كأب لها فقط في شهادة الميلاد..أما ما عدا ذلك فهي لم ترمنه عبر سنوات عمرها الخمسة وعشرون معنى واحدًا للأبوة.. لقد حاولت أن تحبه كثيراً..وحاولت أن تتقبل حقيقة أنه والدها..وأنه يجب عليها أن تكون ابنة بارة له مهما صدر منه تجاهها.. لكنها فشلت وبجدارة في تحقيق هذا المعنى .. حتى توصلت مؤخرا لأن تتلافاه.. أن تتناسى وجوده..وتتلافى تلك الحقيقة التي لا تملك لها بدلًا..وهي أن الأستاذ طاهر علي زين الدين والدها..شاءت أم أبت..هو والدها.. بغض النظر عن انفصاله المبكر عن والدتها دون طلاق حفاظًا على صورتهم الاجتماعية الزائفة أمام الناس.. هو والدها.. بغض النظر عن عدم سؤاله عليها معظم الأوقات فهو والدها.. بغض النظر عن عدم تعبيره لها عن مشاعره تجاهها في أي لحظة أو موقف مر بحياتها فهو والدها.. بغض النظر عن بعده وجفاءه طيلة الوقت فهو والدها.. بغض النظر عن تعدد علاقاته النسائية فهو والدها.. وبعيدًا عن خوفها من الارتباط وعدم ثقتها بالرجال بسبب مارأته ومالم تره منه..فهو والدها.. وبعيدًا عن والدتها التي تفانت من أجلها ومن أجل تربيتها ..ولم تتوقف لحظة واحدة عن حبه رغم كل مافعله بها ….فهو والدها .. لم يكن لها أبًا..فكيف تصبح له ابنة ..ولماذا تحزن على فراقه إذا كان غائبًا عنها بالفعل من قبل وفاته؟ ولماذا ترتدي الأسود وتوقف حياتها كلها حتى ولو لفترة وجيزة بسببه ؟ أتعبها في حياته والآن يكرر نفس الأمر في مماته..حيرها حتىأنها لا تعلم هل تطلب له الرحمة ؟ أم تطلب من ربها أن يلقىجزاء إهماله وتناسيه لها كل هذا الوقت ؟ لماذا ذكروها به حينما مات..لقد أغلقت تلك الصفحة منذ سنوات.. واليوم هي مطالبة بذرف الدمع..وتقبل العزاء..وتحمُل تعليقات الأهل والأصدقاء حول الحزن والموت والصبر..كأنهم لا يعلمون حقيقته وكأنهم لا يدركون أنه كان ميتًا بالفعل من قبل أن يُدفن بسنوات متعددة !!! لذا فهي لم تذرف الدمع وهي تتلقى العزاء.. حتىأن البعض أثنى علي قوة تحملها ورباطة جأشها..في حين أنهم رفضوا الاعتراف بحقيقة موت شعورها وغياب تأثرها حتى وهم يعلمون هذا ..لم تر أن هناك داعياً للبكاء على شخص لا تربطها به عاطفة !! لم تره جديرًا بدمعها فقررت أن توفره لمناسبة حقيقية أخرى ! الدموع تمثل لها الصدق..وهي ما اعتادت قط أن تبكي علي شيء زائف .. وجدت نفسها قد انعطفت بأفكارها وبسيارتها إلى البحر..ففتحت النافذة واستنشقت هواءه الصباحي المنعش.. سارت الهوينى حتى وصلت إلى ذلك المقهى المفضل لها ..والذي يعد أجمل كوب من القهوة بشيكولاتة النوتيلا..أوقفت سيارتها بجوار المقهى ..من اليسير أن تجد مكاناً في هذا الوقت المبكر لسيارتها قبل ازدحام الطرقات.وتكدسها بمئات السيارات.. دلفت إلى المقهي.. وجلست على منضدتها المفضلة المطلة على الزجاج المطل على البحر.. بادرها النادل بالتحية حاملاً معه قائمة المشروبات والفطور.. فقالت له :سأطلب طلبي المعتاد.. رد عليها قائلاً : لقد أجرينا بعض التعديلات في القائمة..اطلعي عليها لعل الحلويات المضافة الجديدة تنال إعجابك.. شكرته وأخذت تطالع القائمة.. لفت نظرها كلمة أحمر المضافة حديثا في القائمة بكلمة ” Red Velvet” أو المخملية الحمراء.. راق لها الاسم كثيرا ..وقررت أن تجرب الطعم.. إن لم ترتد الأحمر اليوم..فلم لا تأكله ؟! نادت النادل وقالت له:

“سأطلب قهوة بالنوتيلا..وقطعة مخملية حمراء إذا سمحت”