منذ أن تخرجت في كلية الشرطة , لم أدخلها الا مرتين , الأولي كانت لحضور مؤتمر الشرطة العصرية لمصر سنة 2000, وقتها في عام 1982 , والثانية لحضورجلسة إجرائية لمجلس تأديب ضباط الشرطة في اواخر سنة 1998, وقتها كانت كلية الشرطة في ضاحية العباسية الراقية .
الان تحولت إدارات متعددة , منها لجان فض المنازعات التي تنشأ بين وزارة الداخلية , وخصومها , وقد جعلتنا الوزارة , ونحن ابناءها , من خصومها , عندما ترفض أن تصرف بعض مستحقاتنا المالية إلا بعد اللجوء للقضاء , ورفع دعاوي اما المحاكم الإدارية , وهو ما كان سببا لدخولي في المرة الأخيرة , منذ ايام , أمام لجنة فض المنازعات .
تقع اللجنة , في المكان الذي كان عنبر ج , حيث كنا ندخل من هذا الباب جريا ونحن نلهث في اعقاب الطوابير , وقتها كان المكان صاخبا , وبه ضجيج الطلاب من مختلف المراحل , ومجدندين , وضباط , وأصوات الخيول التي تصهل , والكلاب التي تنبح , ولما يكن مسموحا نحن الطلاب أن نمشي ببطئ بل لابد من الجري .
المكان اصبح ساكنا كمقبرة , بعد ان ذهبت كلية الشرطة ومعاهدها الي مكان آخر , في ضطراف القاهرة الشرقية .
يستقبلك صف من الموظفين , بعيون باردة , متطلعة , أمامهم منضدة رخامية باردة , وبجوارهم وحولهم آلاف الأوراق والدوسيهات , وخلفهم لافته حديثة , بانر , بالألوان , مكتوب عليها الأوراق المطلوبة من خصوم الوزارة , علي كل اشكالهم وانواعهم , سواء من تم أعتقالهم , أو تعذيبهم , او طالبي التعويضات, من ابناءها الذين انتهت خدماتهم, وتخلفت عنها إصابات جسيمة بسبب عملهم .
وقفت , امام الرخامة الباردة , وأعلنت عن رغبتي , لأحدهم , استقبلني ببرود , وانشأ لي أحدهم ملف , بعد ان قدمت له الأوراق , وشرح يملأ بيانات كثيرة , يستمدها من بطاقتي التي قدمتها له .
كان هناك عامل كبير الحجم والسن , يرتدي , يونيفورم , ويقف أمام آلة ضخمة لفرم الأوراق والمستدات , كان لها فم واسع يشبه الفك السفلي لإنسان مشوه , وكانت بجواره رزم كبيرة من الدوسيهات المربوطة , بألوان نفسجية ورزرقاء وبيضاء وخضراء , كان يفك الرباط ويحمل الرزمة , ويدفعها علي مراحل , في فم الماكينة , التي يكانت تهدر علي الدوام , لفت نظري طريقة إخراج مخلفاتها , كانت عبارة عن اشرطة رفيعة , شكلت لوحة سيريالية جميلة , تحتاج الي متخصص في النقد الفني , ليفك الغازها السحرية , واسرار الونها وإتجاهات الخيوط المرسومة في اللوحة , التي تسربلت بتلك الألوان الرائعة , وبعد فترة فتح باطن الماكينة , وأخرج قفصا حديديا , مملتئ بتلك الأشرطة جميلة الشكل , وكانت للقفص عجلات , دفعها العامل امامه , حتي وصل الي ركن محاط بألواح الخشب , ورفع الصندوق وسكبه علي كومة هائلة من تلك الأشرطة .
لسبب غامض ومبهم , قارنت بين الملفات التي ينشئها الموظفون , وبين تلك التي يعدها هذا العامل , لتكون وجبة غذاء لتلك المفرمة , ستدخل في فوهتها, ذات يوم , لتخرج فضلات رائعة وجميلة , ولم أتنبه الي سؤال الموظف , عندما ناولني ايصال به تاريخ الجلسة , وسألني هامسا :
– حضرتك هتحضر الجلسة ؟
كان يعلم انني من اسيوط , وأن الأمر يستوجب السفر , والتكاليف , وأن مسألة حضوري ليست واجبة , ولا ضرورية, لتصدر اللجنة توصيتها , التي لا تلتزم بها المحاكم , واخبرني أنه يمكنني أن احضر في اي وقت , لإستلام قرار اللجنة , ولا يحتاج الأمر إلا لورقة مالية بسيطة , توفر علي عناء الحضور , في موعد محدد , وأنه , اية الموظف , سيتكفل بتجهيز القرار , وقت حضوري , لأضعة في مستندات الدعوي التي سأرفعها , للحصول علي حق كفله لنا القانون .
وقتها توقفت الماكينة عن إلتهام الملفات القضائية , وأصبح الهمس مسموعا , فناولته الورقة , وقلت له هامسا :
– البركة فيك .