رحل؛ ولم يترك فى البيت حتى ثمن وجبة العشاء، عامل اليومية الذى افترسهُ المرض اللعين. ارتاح.. وتعبت أنا.. بهذه الكلمات صرخت الأرملة الشابة، وهى تحتضن أبناءها الثلاثة… بكته بحرارة عند الصدمة الأولى، وزاد بكاؤها حرقة ومرارة كلما فكرت فى حالها وحال أولادها.
بعيون زائغة تتحسس أركان الشقة الخاوية، تمد بصرها إلى بابها القديم، وكأنها تراه لأول مرة!! ينهش القلق قلبها؛ فقد رحل عن بيتها الزوج والأمان. بعد إنقضاء واجب العزاء.. اقتربت منها بعض النسوة، همسن فى أُذنيها. ومن “برطمة” الشفاه يتعلق عقلها “بقشة” الإجابات الغائبة. تمسح خطىّ الدمع، وبحركة لا تخلو من وهن اللحظة، تفتح كيسها القطيفة الباهت، وتخرج ورقة وحيدة.. شهادة وفاة الزوج. ثم تندفع- بعد أن نفضت كلماتهن عنها غبار الحزن والإجهاد- نحو غرفة نومها، وتعود إليهن مسرعة بشهادات ميلاد الأولاد. وفى صباح الغد الباكر، تندفع بصحبتهن من جامع للآخر، ومن جمعية شرعية إلى أخرى أهلية، أصحاب الأيادى البيضاء كُثر، وقد أصبحت بما تملكه من أوراق بابًا من أبواب دخول الجنة!!
فإذا بالمال يتدفق كالسيل، لا يحتاج استئذان، ولا يحتاج إلى وقت، تتبدد الأشياء حولها: باب الشقة صار من خشب “الأرو”، الجدران أصبحت تبلوهات فنية ناطقة، وعرفت الحجرات دفء وبرودة الأجهزة الحديثة، ووشى الحمام بالسيراميك، كل شيىء تغيَّر، أما هى فقد ظلت وفية لعدة الشغل: الأوراق، وكيسها الباهت اللون، وملابس الحداد.
عامان انقضيا سريعًا، لم تشعر بهما، دبت العافية والنضارة فى جسدها الضعيف؛ فتوهجت وجنتاها، وتألقت عيناها؛ فلم تعد تحمل همًا لكسوة الأولاد أو مصارف المدارس.
وكثيرا ما كانت تلوم نفسها ضاحكة من هذا الخاطر الذى يهاجمها من وقت لآخر: بأن المرحوم كان يجب أن يرحل قبل موعده بخمس سنوات؛ لتبنى منزلا، وتدخل الأولاد مدارس خاصة أو أجنبية. طرق بابها الكثير من الرجال للزواج، ولكنها كانت ترفض، وتتعلل صارخة:
“سأعيش لأولادى”، ووراء الصرخة قهقهة صاخبة تخفيها بصعوبة قائلة لنفسها: “إن فى هذا الزمن ضل الحيطه أقوى وأغنى وأكثر سترًا من ضل أىّ راجل” !..