كتاب الاغاني

يُعد كتاب “الأغاني” من أهم مصادر الأدب العربي؛ لما يحويه من الأشعار والتراجم والأخبار التي يستعين بها الباحث في تاريخ الأدب العربي، وقد قمت في هذا البحث بالتعريف بمؤلف الكتاب وحياته، والعصر الذي عاش فيه، كما تحدثت عن الكتاب وأهميته على نحو ما تحدث عنه القدماء، وما وجّه له البعض من النقد، وفي النهاية اخترت الجزء الخامس من الكتاب لأستعرض محتوياته وأهم الموضوعات فيه، للوقوف على منزع الأصفهاني في التصنيف والترتيب والرواية.

كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

قال أبو محمد المهلبي: سألت أبا الفرج: في كم جمعت هذا الكتاب؟
فقال: في خمسين سنة، وإنه كتبه مرة واحدة في عمره، وهي النسخة التي أهداها إلى سيف الدولة بن حمدان فأعطاه ألف دينار، وقد بلغ ذلك الصاحب بن عبّاد فقال: “لقد قصر سيف الدولة، وإنه ليستحق أضعافها؛ إذ كان مشحونًا بالمحاسن المنتخبة والفِقر الغريبة، فهو للزاهد فكاهة، وللعالم مادة وزيادة، وللكاتب والمتأدب بضاعة وتجارة، وللبطل رُجلة وشجاعة، وللمضطرب رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذة….”، وقد ذكر ابن خلكان أن الصاحب بن عباد كان يستصحب في أسفاره حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب، فلما وصل إليه هذا الكتاب لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره لاستغنائه به عنها.

ولم يكن الصاحب بن عباد وحده من مدح الكتاب وقيمته، فقد تحدث عنه بنفس القدر من الثناء ياقوت الحموي والمقري وابن خلدون وغيرهم الكثير، وهذا ينم بالطبع عن القيمة العظمى لهذا الكتاب، فهو يضم الكثير عن أخبار العرب وقبائلهم وأيامهم وأنسابهم، وتراجم الشعراء وقطع من أشعارهم، كما أورد فيه أخبار عدد من رجال السياسة والعلوم، وغير ذلك الكثير.

 

  • فالأصفهاني إذن ألف كتابه في خمسين سنة،

وكتبه مرة واحدة بيده، والسبب في تسمية كتاب الأغاني – كما أوضح الأصفهاني نفسه – أنه بنى مادته على مئة صوت “أغنية” كان قد أمر الخليفة هارون الرشيد مغنيه “إبراهيم الموصلي” أن يختارها له، ثم أمر أن يُنتقى منها عشرة، ثم ثلاثة، وكانت هذه الأغاني هي المادة أو النواة التي بنى عليها الأصفهاني كتابه، ثم زاد عليها أصواتًا اختيرت للخليفة الواثق، وقد كان الأصفهاني ينطلق من الأغنية إلى ذكر شاعرها ونسبه وحياته وأشعارٍ أخرى له، وقد كان يشرح الغريب الذي يجده من ألفاظ ما يورد من الشعر، ويسرد ما ذُكر فيه من وقائع، كما كان يورد الروايات التي لا يعتقد في صحتها، وينتقدها ويبرز أسباب ضعفها.

وهو كتاب يجمع إلى جانب موسوعيته نمطًا في العرض شائقًا جذّابًا، يجعل من قراءته مُتعة منقطعة النظير، كما أنه يحتوي على الكثير من الطُرف والمِلح التي تخلب الألباب وتمتع النفوس، وهو على اعتراف جميع المؤرخين الذين تحدثوا عنه بفضله، إلا أن حديثهم لم يخلُ من النقد، وإذا تغاضينا عن النقد الأخلاقي المتأثر بالمنزع الديني لدى البعض – كابن تيمية وابن الجوزي – فسنجد أن ياقوت الحموي قد قرأ الكتاب مرارًا، وكتب منه نسخة بيده في عشرة مجلدات، وقال عنه: “فوجدته يَعِدُ بشيء ولا يفي به في غير موضع منه؛ كقوله في أخبار أبي العتاهية: وقد طالت أخباره ها هنا وسنذكر أخباره مع عُتب في موضع آخر، ولم يفعل، وقال في موضع آخر: أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدّمت، ولم يتقدّم شيء، إلى أشباهٍ لذلك، والأصوات المئة هي تسعة وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان غلب عليه، والله أعلم”اهـ.

 

  • فالأصفهاني إذن لم يورد ترجمة أبي نواس، كما أنه أيضًا لم يذكر ابن الرومي،

وإن كان البعض يرى أن ذلك قد وقع عن عمد من المؤلف، إلا أن أحدًا لم يذكر دليلاً على ذلك،
فإذا كان الأصفهاني قد أغفل ابن الرومي – أبا الحسن علي بن العباس بن جريج – عامدًا رغم مكانته الأدبية وأهميته،
لخلو سيرته من الأخبار الطريفة على حد زعمهم، فإنه لم يترجم لأبي نواس برغم أنه يتفق معه في المنزع الأخلاقي،
وتمتلئ سيرته بالكثير من الطرائف، وفي رأيي أن كليهما قد سقط من الكتاب سهوًا من أبي الفرج لا عن قصد،
أو ربما يكون ياقوت الحموي على حق من أن الكتاب قد ضاعت بعض أجزائه.

كما يُعاب على الأصفهاني أيضًا أنه لم يلتزم بترتيب زمني في تراجم الشعراء، فلم يبدأ بالجاهليين مثلاً ثم الأمويين ثم العباسيين.

ولا عجب في ذلك فالرجل ظل نحو خمسين سنة يوثق الروايات حسبما وصلت إليه،
ولم يكن هناك وقت بعدها لإعادة ترتيب هذا الكم الضخم الذي اجتمع لديه.

 

الجزء الخامس من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

يقع كتاب الأغاني في أربعةٍ وعشرين جزءًا، وقد اخترت الجزء الخامس كنموذج لعرض منهج الكتاب ومحتواه.

يقع الجزء الخامس في 435 صفحة، وهو يتناول تراجم عدد من الشعراء، منهم المخضرم كالنابغة الجعدي،
ومنهم من عاش في العصر الأموي كعبيد الله بن قيس الرقيات..

ومنهم العباسي كإبراهيم الموصلي وولده إسحق، اللذين خصهما بالشطر الأكبر من هذا الجزء.

يتبع الأصفهاني نفس المنهج في كل تراجمه

فهو يبدأ بذكر نسب المترجَم له، وكنيته ولقبه، وسبب ذلك اللقب، ثم يورد أخبارًا عن نشأته وبيئته والأحداث التي عاصرها، وصلته برجالات السياسة في زمنه،
وميوله السياسية إن وُجدت،
وطباعه الشخصية،
وأصواتًا من شعره،
وتاريخ وفاته.

فقد بدأ هذا الجزء بذكر النابغة الجعدي ونسبه وسبب تلقيبه بالنابغة، ثم أورد الروايات التي تزعم أنه عاش مئتين وعشرين سنة، وإنكاره للخمر وتركه للأوثان في الجاهلية، ثم إسلامه أمام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويشيع الاستطراد في كتاب الأغاني في غير موضع، وهو سمة للأصفهاني، فحين أراد بيان موضعي ماءٍ ذكرهما النابغة الجعدي في بيت له، ألجأه ذلك إلى سرد روايات عن حرب البسوس، واستطرد في سرده فروى أشعارًا عنها للمهلهل بن ربيعة وغيره، وأطال في سرد تفاصيلها حتى أبعد عن سببها مما روى من شعر الجعدي.

ثم انتقل إلى الهذلي فذكر نسبه، ونشأته وزواجه وغناءه ونزوله من مِنى بأمر الحارث بن خالد.

ثم انتقل إلى عبيد الله بن قيس الرقيات ونسبه، وسبب لقبه بالرقيات؛ وهو تشبيبه بثلاثٍ من النساء اسمهن رقيّة،
وميله لمصعب وعبد الله بن الزبير وخروجه على عبد الملك بن مروان ثم عفو عبد الملك عنه،
وما سار من شعره وغنى به المغنون.

ثم ذكر مالك بن أبي السمح ونسبه، وأساتذته في الغناء، وأنه أدرك الدولة العباسية، وأطرافًا من حياته ورثاء الشعراء له بعد موته.

ثم ذكر الوليد بن عقبة ونسبه وولايته الكوفة ثم عزله منها، وعلاقته بعثمان بن عفان الذي ولاه الكوفة خلفًا لسعد بن أبي وقاص، وتحريضه لمعاوية على الثأر لعثمان، وما كان من قصة شربه للخمر وإقامة عثمان للحد عليه.

ثم انتقل إلى إبراهيم الموصلي ومنه إلى ولده إسحق بن إبراهيم، واستفاض في الحكي عن نسبهما ونشأتهما وأساتذتهما، وعرض أخبار عن حياتهما وصلتهما ببني العباس على نحوٍ يوحي للقارئ وكأنه عاصرهما، برغم أنه يحكي الأخبار بعدد من الأسانيد المحكمة.

 

كتاب الأغاني وزمن الأصفهاني

أقل ما يوصف به الزمن الذي عاش فيه الأصفهاني هو أنه العصر الذهبي للحضارة العربية بشكل عام، والأدب بشكل خاص،

فقد عاش الأصفهاني في بغداد في فترة عاش فيها الكثير من أعلام اللغة والأدب والفقه وسائر العلوم والفنون، وقد روى عن معظمهم،

وقد شهد عام وفاته وفاة عالمٍ آخر هو (أبو علي القالي) صاحب “الأمالي”، ووفاة ثلاثة ملوك؛ هم سيف الدولة الحمداني، وكافور الإخشيدي، ومعز الدولة بن بويه.

كانت بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين – الفترة التي كان يحيا فيها الأصفهاني – عاصمة للدنيا
لا للدولة الإسلامية وحدها، فقد كانت قِبلة العلماء والأدباء على حدٍ سواء، وقد غصت بالمكتبات ودكاكين الوراقة،
وحفلت بمجالس العلم والأدب والفن من كل لون، كما كانت الحالة الاقتصادية المزدهرة للدولة قد أثرت على نمط الحياة
لدى الناس، إذ كانت مظاهر الحياة قد تأثرت بحضارات فارس القديمة، فتطورت العمارة وكثرت الحدائق، وتنوعت أنواع
الأطعمة والأشربة، كما ولع الناس بالغناء والشراب والتأنق في مظاهر الحياة، ولم يكن الأدب بمعزل عن كل هذا،
ويظهر أثر هذا واضحًا في الكثير من المصنفات التي تحوي السير والتراجم في تلك الفترة،
ومن أبرزها بالطبع كتاب الأغاني.

اتصل الأصفهاني بالوزير المهلبي – الحسن بن محمد بن هارون من ولد المهلّب بن أبي صُفرة
ووزير معز الدولة بن بويه الديلمي – فانقطع له وصار نديمًا له، وامتدحه بشعرٍ كثير،
وقد اصطفاه المهلبي وأسبغ عليه من فضله، ولكنه مع ذلك لم يسلم من هجائه،
برغم أنه كان يتحمله ويتغاضى عن الكثير منه، حتى أن المهلبي قد سكر ذات ليلة فقال للأصفهاني:
يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرًا، فاهجُني الساعة جهرًا،
وهي قصة طريفة على نحو ما تميز به كتاب الأغاني من الطرف والفكاهة.

 

عن سيرة أبو الفرج الأصفهاني

هو أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي الأصبهاني ، ومن هنا نرى أن نسبه يصل إلى مروان بن محمد – أو مروان الحمار – آخر خلفاء بني أمية.

يقول عنه ياقوت الحموي إنه..
“العلّامة النسّاب الإخباري الحُفَظَة الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراية: لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها وحُسن استيعاب ما يتصدّى لجمعه.

ولد في أصبهان سنة 284هـ في خلافة المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق،

ومات في الرابع عشر من ذي الحجة سنة 356هـ في خلافة المطيع لله ، ونشأ وعاش في بغداد.

وقد روى الأصفهاني عن الكثير من علماء وأدباء عصره؛
كأبي بكر بن دريد
وأبي بكر بن الأنباري
والأخقش
ونفطويه
وابن جرير الطبري
وجحظة وابن المرزُبان
وجعفر بن قدامة وغيرهم،
وروى عنه الدارقطنيّ وغيره.

وقد امتدحه الكثير من العلماء، فبالإضافة إلى ياقوت مدحه ابن خلكان في “الوفيات”، والثعالبي في “يتيمة الدهر” وابن النديم في “الفهرست” وغيرهم، لكن الأمر لم يخلُ من القدح والتشكيك في رواياته لدى البعض الآخر، فقد قال عنه ابن الجوزي في كتابه “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم”: “إنه كان متشيّعًا ومثله لا يوثق بروايته، فإنه يُصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهوّن شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومُنكر” ، ويتضح لنا من هذا أن ابن الجوزي لم يطعن في روايته إلا لتشيّعه ومنزعه الأخلاقي، وهذا – في رأيي – لا يعدّ سببًا معتبرًا للتشكيك في رواياته، وما أرى ذلك من ابن الجوزي إلا تأثرًا برأي أستاذه (ابن تيمية)، فقد روى (ابن شاكر) في كتابه “عيون التواريخ” أن الشيخ (شمس الدين الذهبي) قال: “رأيت شيخنا تقيّ الدين بن تيمية يضعّفه ويتهمه في نقله” .

 

  • أما مسألة تشيّعه في مسألة فيها نظر،

فقد حدث خلاف كبير في هذه المسألة، حيث يراه الكثيرون شيعيًا؛ ومنهم (ابن الأثير) في كتابه الكامل، حيث قال: “وكان أبو الفرج شيعيًا، وهذا من العجب” ، وعلة العجب على ما يبدو عند ابن الأثير أن الأصفهاني كان أمويّ النسب، وفي رأيي أن هذا أيضًا ليس سببًا للعجب – إذا سلّمنا بصحة تشيّعه – فقد بعُد عهد الدولة الأموية، بل إن العلويين أنفسهم قد ذاقوا على يد بني العباس أضعاف ما ذاقوه على يد بني أمية من العذاب.

لكن ابن الأثير كان يتفق في رأيه هذا مع الكثير من المترجمين حول تشيع الأصفهاني، فمنهم من رآه زيديًا، ومنهم من رآه إماميًا، ولا علة لذلك عندهم إلا كتابه “مقاتل الطالبيين”، والحقيقة أن هذا الكتاب نفسه يرد عليهم، فلم يتحدث مثلاً في الكتاب عن قضية الإمامة ورأيه فيها، كما أنه كان ينتقد بعض أفراد الأسرة العلوية، فهو مثلاً يردّ رواية عليّ بن عبد الله بن محمد لأنه كان يقول بالإمامة، فالأصفهاني يرى أن الاعتقاد في الإمامة سببًا لفساد الرواية.

من هذا أقول إن تعاطف أي شخص مع آل البيت النبوي لا يُعدّ تشيّعًا، فكلنا نتألم لما أصاب الأسرة العلوية على يد الأمويين والعباسيين على السواء، كما أن وصف الأصفهاني في كتابه لمقاتل الطالبيين كان تقريريًا يخلو من النبرة الشيعية التي تهدف لإثارة الكراهية لبني أمية وبني العباس.

الخاتمة

من كل ما تقدّم أرى أنني قد استطعت الوقوف على القيمة الحقيقية لكتاب الأغاني، تلك القيمة التي جعلته
عبر الأجيال من أهم مصادر الأدب القديم، فلا عجب في أن يهتم به العرب والمستشرقون كمرجع يؤرخ للعديد
من الجوانب الأدبية والسياسية للعرب عبر عصورٍ عدة، كما لم يقع لي خلال قراءتي للكتاب أي دليل على أن
الأصفهاني كان شيعيًا، إما لأنه لم يكن شيعيًا بالفعل، أو لأنه التزم الموضوعية العلمية فيما ينقله من أخبار،
بل إنه على العكس تمامًا قد اتخذ منهج علماء السنة في استقصاء السند والدقة في عرض المتن،
بل ونقده لكليهما أيضًا.

وأرجو من الله في النهاية أن أكون قد وُفّقتُ في عرضي الضئيل للكتاب،
وكلي يقين أن هذا الكتاب لا تكفيه مئات الصفحات من البحث والدراسة.

المصادر والمراجع

  1. كتاب الأغاني ، أبو الفرج الأصفهاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010.
  2. معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، ياقوت الحموي، دار العرب الإسلامي، بيروت، 1993.
  3. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.
  4. عيون التواريخ، محمد بن شاكر الكتبي، دار الثقافة، بيروت، 1996.
  5. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.

 

بحث ودراسة : عادل أبو الأنوار