“الشباب” ، “القوة”، ” العظمة” ، و”الموت” !
الموت الفناء، أمّا الحياة فليست سوى الاستمرار في البقاء، حتى لو لم يتبق من الصحة والثروة والنفوذ أي شيء، لكن لابد أن تبقى الحياة في أي شكل. لابد أن أظل على قيد الحياة.
ولأن هذه الإمكانية ليست في مقدور أي كائن حي، فحالة القلق لابد وأن لا تعرف لها نهاية سوى بالموت الحقيقي. يقول شوبنهاور” إن الحيوان يحيا دون أن يعرف الموت” .. إذن هُناك القلق، وهناك الموت في آخر الطريق.. من آن لآخر نتذوق طعم الموت، في حادث فقد شخص معروف ترك أثرًا كبيرًا، نتشارك الحُزن لفقد واحد من العظماء . نبدأ في حصاد حقولهم بعد أن يرحلوا، وهذا الذي مات، قد وجد من الحياة فُرصة كي يُمارسها بشكل مُختلف ونحن الذين لم نُحاول!

هؤلاء الذين يُوصفون بالعظمة؛ خُلقوا كي نتذكر أننا نستطيع دومًا أن نفعل ولو شيئًا واحدًا يدعو للفخار، وليس في الأمر دهشة أنه كلما طرحت الحياة واحدًا من هؤلاء أرضًا، فكأنما نُزع واحدًا من الاتجاهات الأربعة، فنتقاسم الحيرة، ومن الوارد ألا نتقبل بأي شكل فكرة أن يموت أي شخص مهم جدًا في الحياة، أو قد يكون غير مهم لكنه قريب جدًا وشعورنا نحوه في خبايا القلوب.

ونبحث بعدها إن ترك هذا الفقيد جزءًا من الأثر في دماء أولاده، أو نبحث وراءه في مخطوطات دوَّنها بلا اكتراث، ودونما ترتيب، وسرعان ما نكتشف أن زوال هذا الحجر من البُنيان كان عاملًا مؤثرًا في حدوث شروخ عظيمة، وفراغات تُهدد بالهدم والاندثار!

الخوف هُنا ليس على من رحل، الخوف في هذه اللحظة يختلف عن الخوف من حدوث شيء مُتوقع أنه مُخيف، ومُتوقع أنه مؤذٍ، نحن نخاف لأننا في لحظة ما سنترك هذا الفراغ، ونتساءل ما حجم هذا الفراغ، ومن الذين سيقف وراءه كي يرصده باهتمام ودقة!

ونحن نتحدث عن البُنيان، نختص بالذكر تلك الحجارة الضخمة البارزة، وقد لا نتعرض لذكر الأحياء يقينًا بأن أثرهم لم يكتمل بعد، وننظر بعين مُجردة للحجر الذي تركه بعد وفاته.
عاجلًا أو آجلًا يُحاصرنا وسواس الفناء، وتثير هذه القلقلة مواقف ( الألم المُفاجيء، المرض الطويل، عثرات العلاقات الاجتماعية، مشكلات العمل) كلها أعراض لكنها لا تلبث أن تلمس هذا الخوف الدفين من ” واقعة الموت” . هذا المزيج من الخوف والقلق ليس إلا لعنة، نتعافى منها أحيانًا، وكثيرًا ما يكون الشعور بالتمسك بالوجود كمن كُتب عليه الموت لمُجرد أنه وُلد! فالإنسان لا يموت في العادة لأنه يمرض، أو يتقدم به العمر، أو يُصاب في حادث، بل يموت لأن الموت واجب لابد وأن يؤديه.

لذا فقد يكون الفناء ضرورة من ضروريات الحياة. يقول باسكال ” لما كان الناس لم يهتدوا إلى علاج للموت والشقاء والجهل، فقد وجدوا أن خير الطُرق للتنعم بالسعادة هي ألا يُفكروا في هذه الأمور على الإطلاق” ! . لأن الذي يرقد على فراش المرض، وجميع من حوله يتوقعون موته، لا يرى نفسه إلا في صفوف الأحياء، ولا يتنازل عن فكرة التعافي!

قد تكون واحدة من خصال الموت التي لا تُوصف بالإيجابية أو السلبية أنه يُسوي بين البشر، غير أن الناس في حياتهم يرفضون أن يكون موت الملوك كموت العامة، ورُبما تمنوا أن تتحول واقعة الموت الرهيبة إلى ملحمة شخصية تترك أثرًا طويلًا ، غير أننا في الحقيقة لا نعرف أعراض الموت، ولا متى يبدأ، لكننا نعرف جيدًا كيف تكتمل
هذه الملحمة !

ليس من ثمة استعدادات واحتياطات لتفادي الموت، فكل شعور بالألم يُذكرنا به، وموت أي شخص يُقربنا منه، غير أن الموت لن يكون في يوم من الأيام مرض مُعدي . لكن هُناك شخص مجهول يقول ” لماذا كُتب عليّ أن أموت وحدي؟!” . فإن أوحت هذه العبارة بالظلم، فهل من العدالة أن نتشارك الموت، هل هُناك أي نوع من التعاطف قد يُخفف وطأة هذه المسألة..الموت!!

في الحقيقة لا شيء يُغير من طبيعة الموت لأنه أمرًا شخصيًا تمامًا، خاص جدًا ، مثل الشعور الشخصي بالقوة، أو بالضعف، أو الصحة، أو المرض، أو الحزن، أو السرور، كلها خبايا لا تنتقل بالعدوى . ونهاية الحكاية أن يتحول صاحب السؤال من التحدث بضمير المُتكلم، لنتحدث نحن عنه بصفة الغائب.