من رواية ( للزقازيق دفء القرفة )

 

الزقازيق ألقت بنفسها فوق ظلي ، وعبرت من فوق نهر مويس ، حاولت أن احفظ في ذاكرتي ،معمارها ، عاداتها ، وتقاليدها التي بدت أول الأمر غريبة بالنسبة لي ، ، ربما استخدمها في المستقبل ، لكنني الآن لا اذكر من تلك المدينة سوي امرأة قابلتها صدفة ، احتجزتني ،صرنا معا صباحا ومساءا ، ونسيت كل شيء سواها ، لم يبق في ذاكرتي سوي المرأة التي تعلقت بي وفاضت عاطفتها الجياشة في هذا النهر المتدفق في قلبي ، ينبض بتكات الساعة المطلة من النصب التذكاري ، حين كنا نتجول ، ونمارس الحب علي الكورنيش ، ونفترق لنلتقي مرة أخري ،فتمسك يدي مرات ومرات ، وتضمني إليها بشدة لأنني يجب ألا اذهب واتركها ، تعاني الوحدة ، أرها شديدة القرب مني، تشبك أصابعها الدافئة الصغيرة ، الناعمة ، وتقبلني بشفتين صامتتين ، حزينتين ، مرتعشتين .
خرجت حين جافاني النوم ومشيت في الهواء البارد المنعش عبر الممر الرطب ، والكلام يستقر علي الأسقف والحوائط النائمة دون أن تتغير مشاعرنا ،وتستغرقني الأفكار الحزينة ممتلئا بالحسد المرير ،تمد يدها لترقيني من شر عيونهم التي تلاحقني طوال العمر .
امشي عبر شوارع المدينة مرتديا عباءتي ، فوق الأسفلت الأسود ،ولوحة الإعلانات تعكس ضوء النيون في ماء النهر ،اجلس علي مقعد الرخام في ظل شجرة البستوانا ، وقطرات الماء تترشرش من السماء ،يتطاير رذاذها فوق بلاط رصيف الكورنيش، تتكوم في منحدر هابط وتكون بركة من الوحل ، وقفت في مكان مرتفع ورأيت نفر من الإنس ، يجري ،يقفز ، يترنح ، من أثر ما تعاطاه، مسطولا من سيجارة البانجو ،وقد غاب وعيه عن الطريق المؤدي إلى غايته ، اسر في نفسه ..:
_ اعتقد أن هناك طرق أخري تؤدي إلي هناك، وأن أحدا لم يمر من هنا ،منذ زمن بعيد .
يتواصل دبيب أفدامه يدق ويدق ، حتي انتابني شعور بفقد الوعي ، وبدأ الفراغ يمتليء بضوضاء السيارات ، كأن السماء أصبحت كلاكسات والكون كله انكسر بداخل رأسي وسقطت إلي أسفل ، وتوقفت قدرتي علي معرفة الأشياء.
وصوت قطرات الماء المتساقط من بين أوراق الشجرة يبدد ظلي المطرز بانعكاس الضوء بين فتاحات البلاط والشوارع يظللها المطر ، وطائر الباتروس يحلق فرحا فوق الماء .