الملاك

اندفع الملاك كالملسوع، صاعدًا نحو السماء، سريعًا، سريعًا، وبالكاد وقف في جماعته يرتجف، وما إن رآه كبيرهم، صاح:
” ما خطبك ؟! “
” مرعوب، مرعوب”
نطقها الملاك بأنفاس متقطعة.
فقال كبيرهم:
” لأعاقبنَّك، عقابا شديدا، على غيابك، وتخلّفك عن جمعِنا، أو لتأتِيَنِّي بنبأ عظيم”
قال الملاك، وهو يجاهد الإغماء:
” كنتُ في الأرض، أتمشَّى بين عباد الله، ومخلوقاته.. أحييهم، ويحيونني، أُضاحك الصغار في مناماتهم، وأُلاطف الرُضَّع فوق صدور الأمهات.. أواسى العجائز في خلواتهن، وأُصاحب الفتيات في نزهاتهن.. حينها استوقفني، وسألني: مَن أكون؟ وكيف دخلتُ البلاد؟ ومع مَن..؟ وهل لديّ أوراق..؟”
قاطعه كبيرهم:
” أوراق..؟! وبماذا جاوبته ؟! “
” تلعثمتُ، و ارتعبتُ من نظرته، وجدتُه يمسك بذراعي، يريد أن يكبلني، اندفعتُ أجرى، وأجرى..”
سأل كبيرُهم:
” وما عرفتَ من يكون هذا.. ؟! “
أجاب الملاك:
” سمعتُهم يقولون؛ واحدٌ من العسكر يطارد الملاك..”
و جثي الملاك على ركبتيه، وانفجر في بكاء محموم.
ربَّت كبيرُهم على كتفه، وقال:
” اهدأ، أنت الآن في مأمن، ولن يطولك، علام بُكاؤك.. ؟!”
أجاب الملاك بحسرة: ” ظننتُ أنه ليس من مخلوقات الله..”
من يومها؛
ما عادتْ الصغار تضحك في مناماتها..
ولا العجائز يجدن من يواسيهن في خلواتهن..
ولا الفتيات يخرجن للنزهات..
ولا الأرض تجد من يزورها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوطن

التقى الثلاثة؛ القاتل والزاني والحرامي،
وأقرُّوا أنهم تعبوا.. تعبوا.
فاستحضروا عفريت المصباح، واشتكوا إليه التعب والملل.
قال العفريت: لكلٍّ منكم أمنية وحيدة، أحققُها له، فكِّروا.
وفَكَّروا.
قال القاتل: أريد أن أكون وردة.
في التوْ، انقلب القاتل وردةً، انتشرت سريعًا في الحدائق والحقول، وفي الميادين والمدن،
وفي المزهريات، وفي الشرفات، وفوق المسارح وخلف المشاهير والأعراس، وبين العشاق..
ثم الْتفت العفريتُ قائلا: وأنت..؟
قال الزاني: أن أكون نهرًا..
ولم يكد يُنهي جملته، حتى أصبح نهرًا، صافيًا، رقراقًا، يجرى بطول البلاد وعرضها، يسقي الأرض والعباد، ويستحم فيه الأولاد، وتغتسل فيه الصبايا، وتتهادى فوق صفحته المراكب، وتتنافس عليه خيالات الشعراء..
والتفت العفريت إلى الحرامي: هِه.. لم يعد غيرك.
تطلَّع الحرامي إلى السماء، حالما، وقال: أكون عَلمًا.
في التوْ والحال، كان علمًا، يرفرف، خفاقًا في سماء الوطن، عاليًا، في الساحات، والمدارس، واستعراضات الجند، والزيارات الرسمية، وفوق المستشفيات، والمصانع والبنوك، وفوق موائد الاتفاقيات والمعاهدات.
وكان هناك أحدهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ

الفتوى

قالت العامّة: أفتنا أبا الحسن.. أفتنا.
قال أبو الحسن: أفعل.
سألت العامة: ما تقول في الحراميّة؟
قال أبو الحسن: في نار جهنم.
قالت العامة: والعسكر؟
سكت أبو الحسن للحظةٍ، ثم غمغم بكلمات.
تصايحت العامة: أفصح أبا الحسن.. أفصح.
أطرق رأسه. وران الصمت على الجميع، كتموا أنفاسهم، وتسمرت نظراتهم على وجه أبي الحسن، وعلى شفتيه.
رفع أبو الحسن رأسه، وتطلّع في وجوههم الهزيلة الممصوصة،
ثم قال: هم في الجنة.
تعالت أصوات العامة، ترجوه، باكية:
أدع ربَّنا أبا الحسن، أدع ربَّنا، ألا يدخلنا تلك الجنة، أدع أبا الحسن، أدع أبا الحسن..
شمَّر أبو الحسن عن ساعديه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المنظر

في بداية العام الدراسي، قالت المُعلِّمة:
من منكم يُحضر لنا منظرًا جميلًا، نُزين به الحائط، أعلى السبورة..؟
صاح عليّ: أنا..
صاح منْعم: وأنا..
صاحت نادية: وأنا أيضا..
في اليوم التالي، كان كل منهم يضمُّ بين ذراعيه لُفافة كبيرة، وما إن دخلت المُعلّمة، حتى فضَّ كل منهم اللفافة، وبحماس أظهر لوْحته..
عليّ أحضر منظرًا للشروق،
منْعم أحضر منظرًا للنهر والنخيل،
نادية أحضرت منظرًا لحديقة تمتلئ بالأشجار والأزهار..
احتارت المُعلِّمة، وقالت للتلاميذ: لنختر معًا أي منها نعلِّقه..
جاء مدير المدرسة على صوت الجلبة والصياح، ولما عرف السبب، قال: بل سنضع صورة الحاكم هنا..
خبأ كلٌّ منهم لوْحته، وأعادها إلى اللفافة، وطوال العام الدراسي، كلَّما نظر أحدُهم إلى صورة الحاكم، تذكَّر المناظر المُخبأة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشرت أجزاء من المجموعة في ” أدب ونقد” 2006