حليب أسود – الحلقة الخامسة

ترجمة أحمد العلي

انقبضَ بطني. لا تسأليني، أرجوكِ. لكنها سألَت: ماذا عنكِ، هل الأمومةُ أمرٌ يراودك؟

المانيفيستو الذي كتبته في الباخرة يومضُ في عينيّ بأحرُفٍ وهّاجةٍ و كبيرة. قد يكون هذا هو الوقت المناسب لإلقاء بعض الأسطر منه. لكن قبل أن تواتيني الفرصة، راحت جوقة أصوات الفوضى تُغنّي، و كأن أحدًا قد كبسَ زرّ التشغيل. همستُ في جُعبتي: أوصصص… إخرسنَ يا بنات بحق الله.

قالت السيّدة آؤلو: عفوًا، هل قُلتِ شيئًا؟.

أجبتها شاعرةً بالحُمرة تجتاح وجهي: لا، لا.. أعني، بلى، كنت في الواقع أتهامس و نفسي و حسب، لا شيء مهم.

ثُمّ سألَتني السيّدة آؤلو دون أن تترك لي فرصةً للتخلّص من هذه الورطة: وما الذي كنتِ تهمسين به لنفسك؟

بلعتُ ريقي بصعوبة حتى أنّ كلانا قد سَمِعَ صوتَ الارتجاع في حلقي.

لم أجرؤ على القول: كنت وحسب أوبّخ الفتيات الأربعة بداخلي، أنتِ تعرفين، إن لهنّ أراءً متعاكسة حول الأمومة، كأيٍّ من المواضيع المهمّة الأخرى في حياتي.

لم أجرؤ على القول: هناك مجموعةٌ صغيرةٌ من الحريم بداخلي. عِصابَة نساء يتشاجرن باستمرار على أتفه الأمور ويختصمن، يتحيّنّ الفرصة لتمزيق بعضهن البعض. إنهن مخلوقات بالغة الصغر، بحجم الأنملة تقريبًا، يبلُغن من الطول من أربع إلى خمس إنشات، ويبلغ وزنهن من عشر إلى أربع عشرة أونصة. هذا هو حجمهن بدقّة. و يجعلنَ حياتي تعيسة. غير أنني لا أعرف كيف أحيى من دونهن. يخرجن و يختبئن كيف شئن. كل واحدة منهن اتّخذت زاوية من روحي لإقامتها. ولا أستطيع أن أخبر عنهن أحدًا. وإن فعلت، فسيجعلن منّي عُرضةً للتشخيص بالشيزوفرينيا. لكن، أليست “الشّخصية” في صميم تعريفها نوعًا من الشيزوفرينيا؟

لم أجرؤ على القول بأنّ كل عضوةٍ في جوقة أصوات الفوضى تدّعي أنّها شخصيّتي الحقيقية، ولذا، ترى إلى الأخريات على أنهن منافساتٍ وحسب.

عميقٌ عدم استساغتهن لبعضهن، لو أُعطينَ الفرصة لاقتلعنَ أعيُن بعضهن البعض. إنهن أخواتٌ باللحم والدم، بيد أنهن يتصرّفن بدمويّةِ قوانين السلطان محمد الفاتح؛ لو أن إحداهن اعتلت العرش، فإني أخاف أنّ أوّل أمرٍ ستقوم به هو التخلّص من شقيقاتها مرّة واحدة وإلى الأبد.

زمنيًّا، لا أعرف أيّهن جاءت أوّلاً، و من ثَمّ مَن تَبِعَ مَن. البعض منهن أوسَعُ حكمة من البعض الآخر، ولا يعود ذلك لما بلغنَهُ من عُمرٍ أكثر من كونه عائدًا لأمزجتهن. أظن أنني اعتدت على سماع أصواتهن يختصمنَ في رأسي طوال الوقت.

لم أجرؤ على قول أيّ من ذلك. و بدلاً عنه، دفعتُ بسؤالٍ في المعركة، هذه أسهل طريقة للخروج من هذا المأزق:

  • أخبريني يا سيّدة آؤلو، لو كان عند شكسبير أختٌ موهوبةٌ بالكتابة بشكلٍ لا يُصَدّق، أو أنّ عند الشاعر الفضولي البغدادي أُختًا موهوبةً بالشّعر مثله تماماً، ما الذي كان سيجري على أولئك النسوة؟ هل كُنّ سيكتبن الكتب؟ أم يُربين الأطفال؟ أظن أن ما أفكّر به هو: هل كان بإمكانهن القيام بالأمرين معًا؟

قالت بنبرةٍ مرتفعةٍ قليلاً: هذا سؤالٌ قَد تناولتُهُ منذ زمنٍ بعيد، و الإجابة التي توصّلتُ إليها بوضوحٍ هيَ: لا. لكنّه زَمَنُك الآن يا عزيزتي، إنه وقتك لكي تُجيبي على هذا السؤال. هل تعتقدين أن بإمكانك التوفيق بين الأمومة و مهنة الكتابة، معًا، و بموازينَ عادلة؟

(أُختٌ موهوبةٌ)

فيرجينيا وولف، في كتابها “غُرفَةٌ تخُصُّ المَرءَ وحده”، تُجادِلُ في أنّه لم يكُن لامرأةٍ، أيّة أمرأة على الإطلاق، أن تكتب مسرحيّات شكسبير في زمنه. و لتوضح حجّتها، ابتكرَت امرأةً خيالية و قدّمَتها كأختٍ لشكسبير. إسمها “جودث”. لنفترض للحظة أن جودث هذه كانت شغوفةً بالمسرح كما كان شكسبير، وتتمتّع بنفس الموهبة. ما هو مصيرها؟ هل كان لها أن تُسَخّر حياتها في تنمية موهبتها كما فعل شكسبير؟ تقول فيرجينيا:

الجواب هو لا، لأن هناك أنظمة و قوانين مختلفة لكلٍّ من الرجال والنساء. تستطيع جودث أن تكون موهوبةً كيفما تشاء، مولعةً بالآداب والفنون كيفما تُحب، بيد أن طريقها ككاتبة سيكون مرصوفًا بالعقبات، صغيرها وكبيرها. ستمر بوقتٍ عصيبٍ لتجد فسحة متذبذبة بين الزوجة الاجتماعية والزوجة الرّفيقة والأم المخلصة التي عليها أن تكونهنّ. وأهم من ذلك، بين واجبات الأم والزوجة، لن تجد وقتًا للكتابة. سينقضي يومها قائمةً بأعمال المنزل الروتينية؛ الطبخ والكَي والاهتمام بالاطفال والتبضّع للمنزل والاعتناء بكل مسؤولياتها العائلية، وقبل أن تنتبه، ستجد نفسها امرأةً منخولة؛ يتسرّب وقت العالم كله من ثقوب حياتها. وفي تلك اللحظات النادرة التي تجد نفسها فيها وحيدة، ستكرّسها للاسترخاء والتخلّص من التوتّر. كيف لها أن تكتب؟ متى ستقوم بذلك؟.

منذ البدء، الفُرَص المُتاحة لشكسبير محظورة على جودث. في هذا العالم حيث تُثبّط عزائم النساء عن تنمية فرديّتهن، ويُلَقّنّ بأن دورهن الأساسي في الحياة هو الوقوف كأم وزوجة صالحة وحسب، حيث النساء مجرّد أصواتٍ في حيّز الثقافة الشفهيّة، ولكن لسنَ منظوراتٍ أبدًا في حيّز الثقافة الكتابيّة، الكاتبات يبدأن باللعب منذ الخسارة: صفر لِسَبعة.

لنقُم الآن بطرح سؤال فيرجينيا وولف على الشرق الأوسط.

محمد بن سليمان، أو الفضولي البغدادي، أحد أشهر أصوات الشّرق. عُرِفَ كشاعر في القرن السادس عشر وهو جليلٌ حتى اليوم عند العرب والفُرس والأتراك على حَدٍّ سواء. لنفترض أن عند فضولي أُختًا موهوبةً تصغره عمرًا، ومن المرجّح في الحقيقة أنّ له أختًا كهذه- واسمها فيروز، وهو لونُ عينيها أيضًا.

فيروز هذه بارعة، مغامرة بالفطرة، عاكفة على التعلم وتفور بالأفكار. مجعّدة الشعر، ناعمة الابتسامة وذهنها مزدحم دومًا بأسئلةٍ مُتشابكةٍ ببعضها البعض. وكالصور في مرايا متقابلة، تتضاعف أفكارها بلا نهاية، وتنداحُ في فضاء لا نهاية له. ينسكبُ الخيالُ من كلماتها كالمياه المنسابة من أقواس القناطِر، نقيّة دومًا، و دومًا حُرّة.

تُحبّ القصص، كُلما زادت المغامرة وارتفع الخطر، كلّما ناسَبَها ذاك أكثر. ليلاً ونهارًا، لا تتوقف و لو للحظةٍ عن إلقاء القصص عن قراصنةٍ يحملون جماجمَ بشريّةٍ والياقوت موضوع في محاجر أعينها، عن سجّادات سحريّة تطير فوق أسواق التوابل، ومغارات كريستاليّة، وعَمَالقة خُضْر برأسَين يتحدثون لغةً مُبهمةُ لكُلّ الآذان ما عَدَى أذنيها. تروي، دون توقف، هذه القصص لأمها وجدّتها وعمّاتها وخالاتها. وعندما لا يطيقون الاستماع إليها أكثر، تذهبُ لترويها للضيوف و الخَدَم و أيّ أحدٍ تسمعُ حسّه في المكان.

كِبارُ العائلة يومئون برؤوسهم، منصتين لها:

  • يا صبيّة، إن خيالك أعمق من المحيط، كيف تجيئين بكل هذه الحكايا؟ هل تتسللين مُعتليةً قمّة “جبل قاف” في منامك وتسترقين السمع لحديث الجنيات هناك حتى مجيء الصباح؟

تتساءل فيروز ما هو ذاك المكان المسمّى بجبل قاف. إنها لتودّ الذهاب إليه و رؤيته بأم عينيها. العالم مليء بالألغاز، وهناك زوايا في الأرض تذكّرك بالجنّة. إنها تعرف ذلك لا لأنها خَبِرَته، بل بالبداهة. لقد قرأَت آياتٍ في القُرآن عن الجنة، حيثُ يُحَلّى داخلوها بأساور من شهب، وثياب من سندس أخضر. إن أكثر ما يسليها هو إطباقها لأجفانها لتتخيل نفسها مرتدية أنعَمَ الأردية، تخشخش خلاخل كاحليها و هي تتمشّى، تشقُّ مجاري مياهٍ باردةٍ، تقطف من الأشجار فاكهةً الواحدةُ منها أكبر من بيض النعامة.

الحُلْمُ فتاةٌ ورديّة الوجنتين، أخّاذةٌ كحورية البحر، و لعوبَةٌ مثلها أيضًا. لو تقدّمتَ لتحملها بين ذراعيك، لانزلقَت منك، ليّنةً وخفيفة، مثل سمكة، أو مثل السّراب المخلوقة من مادته. أولئك الذين يشتاقون للمسها، لا يفعلون سوى استنزاف حيواتهم.

الحقيقةُ عجوزٌ بشعرٍ رماديٍّ كالسماوات العاصفة، بلا أسنانٍ و تُثرثر بشكلٍ يبعثُ القشعريرة. هي ليست قبيحة، ليسَ تمامًا، بيدّ أن فيها شيئًا مُريبًا وغير مريح مما يجعل النظر لعينيها أمرًا صعبًا.

الحُلمُ هو الحُضن الحميم لفيروز، صديقها المُقرّب.  وهُما يلعبان، يضحكان و يتبادلان النّكات، وهُما يعدوان معًا، تراقبهما الحقيقةُ من بعيدٍ بعينين مزمومتين.

قالت الحقيقة: “اقتربَ اليومُ الذي سيخرُجُ فيه الحُلمُ المُدلّلُ هذا من الباب، و سأسترخي على عرشها ذاك، مكانه. ستلعب فيروز مع الحلم لبعض الوقت فقط. غير أنها ستصبح امرأةً عن قريب، و لِزامًا عليها عندما أن تفترق عن حبيبها و صديق لعبها ذاك”.

استيقظَت فيروز في أحد الصباحات، هُناكَ بلَلٌ غريبٌ بين ساقيها، و رأَت بُقعةً حمراء تُلطّخُ ثوبَ نومها. انقبضَ قلبها بشدّةٍ و عُنف. اجتاحها الرّعب من أنها قد جرحَت نفسها بشيءٍ ما دون أن تدري. هكذا أسرعَت راكضةً إلى والدتها و هي تشهَقُ وتبكي. وبالكاد مرّت بضعة لحظاتٍ قالَت خلالها كلماتٍ معدودةٍ في أذن أمها، حتى دوى صوتٌ و تلقّت فيروز صفعةً على خَدّها أيقظتها إلى الأبَد.

قالت لها أمها بنظرةٍ رحيمةٍ في عينيها لا تتماشى أبدًا مع حِدّة صوتها: “إهدئي”.

همسَت فيروز مذعورةً: “أمي! ما الأمر؟ ماذا حدث؟”

(يتبع)