بقلم/ إيمان الزيات

إيمان الزيات

 

يعرَّف (إمبرت) القصة القصيرة فى كتابه [ القصة القصيرة_ النظرية والتقنية]

على أنها ..

(سرد نثري موجز يعتمد على خيال القاص مع ضرورة وجود ملكة تركيبية تحبك الأحداث وتنظمها بلغة رامزة لا إقحام فيها للتفاصيل والحشو الزائد)

ويقول القاص (بورخيس) عن سبب إعجابه بقصص الكاتب (كيبيلينج) أنها لا توجد فيها كلمة واحدة لا لزوم لها ..

وربما هذا سبب إعجابي أيضا بثلاثية (ورد النيــــل) للأديبــــة سعدية خليفة والتى نحن بصدد استعراضها الآن، فضلاً عن الحس الإنساني الصاخب فيها والذي أوقع بي في إشكالية المحاولة الدائمة لانتزاع مشاعري وأنا أتعامل معها كي أستطيع قراءتها بشكل موضوعى فإن أعمالها الثلاثة تتضح فيها خصائص القصة القصيرة والتى تعد المحدد الأساسى لأى عمل قصصي، فمن دون خاصية واحدة منها لا يمكننا بأى حال من الأحوال أن نطلق على النص الأدبي مسمى (القصة القصيرة) ..

فلقد أحسنت القبض على (وحدة الهدف) والذي يتلخص في محاولة (نقل الواقع الاجتماعي والسياسى فى تلك الفترة الزمنية التى اختارتها لأحداث قصتها نقلاً موضوعياً شفيفاً) ولم تحد عنه أو تتشتت في قصصها الثلاث .. وقدمته بصورة (مكثفة) فكانت كتاباتها ترجمة حرفية لمقولة (يوسف إدريس) أن القصة القصيرة “رصاصة تصيب الهدف أسرع من أى عمل سردى آخر”

كما أنها أجادت صياغة (دراما النص) فخلقت نوعاً من الحيوية والديناميكية والحرارة في العمل مستعينة بعامل التشويق والذى حققت به المتعة الفنية.

وأكثر التجليات التي تعكس قدرتها تلك ما جاء بقصة (عزة) حين قالت واصفة:

“والوجه الذى مر أمامها على الشاشة وسقط تعرفه جيداً .. يرتجف قلبها من هول الحدث فتكذب عينيها وتقنع نفسها بأنها خيالات من الوهم انتابتها .. وحيدة على مقعد مهترئ من القش بعد ملل الركض بلا جدوى تحدث نفسها وتحاور ظنها ..

– لو يعيدون عرض المشهد ربما تتأكد”

أما عن (عناصر القصة القصيرة) فتطالعنا ملامحها بتلك الأعمال الثلاثة التي تعكس بوضوح (رؤية) القاصة ونظرتها الشخصية للحياة .. حيث أن واقعنا الاجتماعي لا مكان فيه للمهمشين ولأصحاب تلك الطبقات التى يجب أن تنزف حتى يلاحظ المجتمع مجرد وجودها وأن هناك أجيالاً برمتها عاشت ثم ماتت دونما أدنى التفات لحقوقها الإنسانية ..

إن (الموضوع) الذى تناولته القاصة عكَسَ تلك الرؤية بمصداقية حين عرض لثلاث مشكلات اجتماعية تتلخص في الآتي:

  • (الخلل الأخلاقي فى علاقة زوج الأم بورد وتشردها بعد موت الأم ) في قصة (ورد)
  • (الفقر والعيش تحت خط الكفاف) في قصة (علي تيشو)
  • (ضياع الهوية بضياع النواة المجتمعية الأولى_الأسرة_ والجهل بمكان وجودها) كما في قصة (عزة)

جعلت القاصة من تلك المشكلات مُنطلقاً ومنبعاً منطقياً لثورة تصب غضبتها في بوتقة الخلل السياسى وغياب العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية متخذة منها دوافع انطلاق لثورة 25 يناير عاكسة بدخول (ورد) الميدان عن طريق الصدفة البحتة جهل البعض بحقوقه وبحتمية المطالبة بها، وصدمة المجتمع المصري بحقيقة أنه يعيش فى وطنه بلا حقوق تُذكر وأن هناك شرائح كاملة في الظل كنا نمر عليها متأففين دون التفات وهذا ما لم تفعله القاصة لقد ألقت عليهم أضواءً كاشفة بقلمها ..

سعدية خليفة

ربما سطرت إحدى شخصيات تلك الثلاثية قصتها بدمائها لتكتمل (التراجيديا) .. وهذا ما يقودنا بالتبعية إلى عنصر هام من عناصر السرد القصصي والذي يعد جوهر القصة القصيرة الحديثة التي تبنى وتقوم عليه إنه (الشخصية) حيث جاءت شخصيات الثلاثية بدون ذكر ملامح ولا وصف خارجى لها فالقاصة قد اتكأت في وصفها للشخصيات على الفعل ورد الفعل في تقنية رائعة منها لتعميم شخصيات (ورد) و(على) و(عزة) لتصبح رموزاً لشرائح من المجتمع المصري اشتركت فى المصير وإن اختلفت المسببات .. حتى شخصية (شذى) الفتاة التى كانت تهتف والتى افتدتها (ورد) بروحها حين بدأت تدخلات السلطة المشينة لإضعاف الثورة وإخلاء الميدان .. كما خلقت شخصية (شذى) دون ملامح للتعميم أيضاً ..

أما عن (اللغة) المادة الأولي لأى عمل أدبي .. فقد استخدمت القاصة (لغة وسطى) غير سطحية ركيكة وغير مقعرة؛ فأهلت بذلك عملها الإبداعي للوصول لمختلف الثقافات بسلامة نحوية ملحوظة وتقنيات بديعة لتصوير الأحداث حيث أجادت القاصة فى استخدام السرد الوصفي فى مواقعه المميزة، وجاء الحوار سلساً وبسيطاً .. متناسقاً أيما تناسق مع متن النص والإيقاع المتواتر حيناً والساخر بوجع حيناً آخر والذي لا يخلو من المونولوجات الداخلية فى بعض الأحيان ..

أما عن (البناء) فأنا أستطيع النظر للثلاثية كوحدة واحدة جاءت قصة (ورد) ممثلة بدايتها، وتليها قصة (علي تِيشو) كوسط يتجلى فيه ذروة الصراع الداخلى ومحاولة فهم الأحداث على صعوبتها والوصول لقرار أو انتواء القيام بموقف ما، ثم تأتينا قصة (عزة) كنهاية كاشفة للهدف ومعلنة عن نتيجة غير محددة فقد اختارت القاصة النهاية (الإشكالية) والتى تبقى دون حل وربما أحيل ذلك لكون الثلاثية قد كتبت في زمن لم تكن الأمور قد اتضحت أو حسمت بعد ..

وهكذا نجحت القاصة أن تجعل من أعمالها الثلاثة مجالاً للفكِّ والتركيب؛ فللقارىء حرية الحصول على جرعة فكرية وأدبية مركزة لا تخلو من الجمال والتخييل الذى يعد هنا كالماء الكريم الذى يسقى اللغة ويضع أطراً غير حادة للأفكار والأيديولوجيات الخاصة بالقاصة ذاتها .. وله أيضا حرية الذهاب فى قراءتها لأبعد من ذلك مكوناً صورة أكثر شمولية واتساعاً ..

العنوان

آثرت أن أنهى قراءتي به وذلك لما وجدت فيه من عبقرية حيث يعد العنوان (قراءة من المؤلف لنصه أو مفتاحاً من مفاتيح النص).

ولقد جاءت عناوين القصص مفردة .. مكونة من كلمة واحدة (اسم) .. أو كلمتين (اسم وكنية) ..

الأولى (ورد) وما يوحى به العنوان من ذبول على طول الحدث القصصي .. ذبولٌ لِباقةِ الورد تارة كفتاة حين حاول زوج الأم اغتصابها، وتارة أخرى كأنثى حين امتُهنت في الشوارع، وكإنسان حين اقتُنصت برصاصة من سلطة بلا ضمير ..

الثانية (علي تِيشو) وهذا المسمى الغامض الذى كشفت الأديبة عن غموضه داخل سطور النص والذي جاء متناسقاً تماماً مع شخصية هذا البطل الذى لم يستطع استكمال أياً من أحلامه بالتعليم أو تكوين ثروة أو الزواج (بورد) التى أحبها.

الثالثة (عزة) تلك الشخصية التى وصفتها القاصة بأنها قوية البنية وبأنها ليست على قدر كبير من الجمال لكنها استطاعت تأمين مكاناً يحميها وتلفازاً وعملاً شاركت صديقتها (ورد) فيه فضلاً عن شهرة تدرأ عنها سخافات المتنمرين ..

(عزة) التى جمعت من بسائط الأشياء ما يجعلها فى هذا المجمع المهمش (عزيزة) .. والتى تحلم بالحب الذى لم تحصل عليه لكنها تنتشى لمجرد رؤيته متكوناً بين صديقتها( ورد) وزميلها (على تيشو) والتى يمكن تأويلها أنها رمز للقوة المتولدة فى هذا الشعب الذى اعتركته الحياة وأهملته السلطة والعدالة لكنه ظل مثابراً ..

وفي نهاية تلك القراءة يمكننى القول بأن الأديبة سعدية خليفة تقترب في كتاباتها من المدرسة الأمريكية الحديثة/ البيهافيورية والمشتقة من المفردة الإنجليزية BEHAVIOR والتي تعني السلوك لغةً، ويتكئ فيها الكاتب على “وصف العواطف بوصف السلوك والحركات والمواقف التي قد تبدو، لأول وهلة، دون معنى؛ ولكن انطلاقاً منها، يُدعى القارئ إلى إعادة بناء الشخصية الحقيقية للشخصيات”

(في نظرية الرواية – بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض ص77)

ومن الجدير بالذكر أن من أشهر رواد هذه المدرسة هو (أرنست هيمنجواي).

هذه الثلاثية التراجيدية  قد أرَّخت لأحداث رئيسية من الثورة المصرية التى قامت في 25 يناير .. مبتدئة بطرح المسببات مروراً بالمواقف والأفعال منتهية برد الفعل ومتوقفة عند هذا الحد دون طرح رؤية واضحة جلية للحلول أو حتى لما آلت إليه الأمور بعد ذلك .. إنها توغلت في المجتمع وخلقت نوعاً من التماس مع السياسة دون التعمق فيها متناولة دور المشاهدة دون حكم .. طارحة الصورة كاملة على القارىء دون تدخل .. مستعينة بأرق المفردات والصور الممكنة لوصف تلك الملحمة الاجتماعية التراجيدية لهذه الفترة المحيرة والمتسمة بالارتباك.

ولا يسعنى سوى القول بأننى كنت هنا بصدد الإطلاع على حس إبداعي مرهف وقلم ممتلك لأدواته وضمير إنساني يقظ ..

وأن تلك الثلاثية تعد تجسيداً لهدف عميق من أهداف (الأدب السردي الأنثوى) خاصة، والأدب بصفة عامة.. ألا وهو:

(الانتقال بالأفكار من الحيز الضيق للذات إلى حيز أكثر رحابة .. حيز المجتمع ومشكلاته وظروفه في محاولة لجعل الأدب وسيلة رصد وتأثير وحل لتلك المشكلات) ..

لقد مثلت القاصة المبدعة أ. سعدية خليفة الحس السردي الأنثوى تمثيلاً مشرفاً .. وكانت رمزاً يتسم بالمصداقية لهذا الكاتب المحايد الذى يتوارى بين الكواليس ولا يظهر إلا ضمنياً في أعماله .. باحثاً عن القيم والمثل العليا عن (الحق والخير والجمال).

تحية ود وتقدير لهذا القلم .. الذى حاولت بإخلاص تسليط بعض الضوء على سماته الابداعية والجمالية.

المراجع:

خصائص وعناصر القصة القصيرة، هدى نور الدين الخطيب

القصة القصيرة -النظرية والتقنية، إمبرت

في نظرية الرواية – بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض