مرسي جابر توفيق..

برقٌ شعريٌّ..

ما أن توهَّجَ..

فانطفأ..

بقلم/ محمود عبد الصمد زكريا

كان يبدأ عند الجميعِ

وعندي يحطُّ الرحالَ

فأخلع عنهُ قميصَ التعبْ.

ويبكي طويلاً

فيعصرُ ما قد تجمَّعَ بين ثنايا الفؤادِ

وينزفً بين الضلوعِ

بقايا الغضبْ.

وكانتْ لديّ المناشفُ .. تكفي

لكيما تجفف نهراً..

وتمتص قهراً ..

كيمٍ .. تُلاطِمُ أمواجُهُ عاتياتِ السحبْ.

وكانت لديَّ إذا شاءَ

بعضُ الريَّبْ.

كان يأتي .. ويخرجُ ..كلَ مساءٍ

كطفلٍ .. برئٍ ..

وبين يديه القميصَ الجديدَ

يحاول أن يرتديه إذا ما ابتعدْ.

إلى أن تولى ..

وولى ..

ودارت عليَّ الرَحى دورةً

ومن يومها لم تقفْ.

ومن يومها لا يمرُّ عليَّ سوي طيفُهُ

قيلَ : ضلَّ الطريقَ ولما يعدْ.!!

قيلَ : آخي من الجنِّ جنيَّةً..!!

وقيلَ .. وقيلَ ..

وآخرُ ما قيلَ:

إن الغلامَ تحوّلَ في لحظةٍ لحصانٍ

يجرُّ إلى القومِ تلَ التعبْ.

( وزارة الثقافة – الثقافة الجماهيرية – مطبوعات مديرية الثقافة بالإسكندرية – ديوان الحب والنهر- ص 83 – قصيدة شاعر – إلى الصديق م ت – محمود عبد الصمد زكريا )..

هكذا كان / مرسي جابر توفيق .. الصديق التوأم .. الشاعر الذي عاش الشِعرَ حياةً ؛ والحياةَ شِعراً .. منذ عرفته زميل دراسة ٍ مع بداية عام 1969م بالسنة الأولى من المرحلة الثانوية بمدرسة مصطفى كامل الثانوية بنين ومن ثم عرَّفني على الصديق / محمود إدريس ؛ ثم ذهبنا ثلاثتنا إلى قصر ثقافة الحرية في العام التالي 1970م ؛ ليلحق بنا بعد عامٍ آخر كلُ من مدحت قاسم ومختار عثمان ويوسف العيشي وكلها أسماء كانت لها بدايات لم تكتمل ومن ثم تعرفنا على الأصدقاء/ عبد الرحمن عبد المولي وأحمد فضل شبلول ومحمد عبد الفتاح الشاذلي وأحمد رفعت وأحمد شاهر وأحمد شاهين وأحمد فراج وعبد المنعم كامل .. وباقي كوكبة جيلنا من الشعراء

لنبدأ جميعاً رحلتنا مع هذا الفن الصعب وسُلَّمه الطويل …

كجيل الثمانينات لشعراء الإسكندرية ..

لم يقل للجميعِ لما تضحكونْ؟

لم يقل أي شئٍ سوى أنه

راح ينظر ملْ الوجوه

ويضغط أسنانَهُ

فانتهوا للسكونْ.

إنهم يدركون مشاكله.. ويحبونها

فهو حين يجئ

يطارحهم عادةً مشكلةْ.

يبدأ الأسئلةْ.

غير أن الجميعَ انتهوا حين جاءَ

لعكس اليقينْ.

ميتٌ .. قالَ واحدُهم ..

حدَّق الآخرونْ.

بينما حب أقربهم لو يعانقه

أو يضع قبلةً بالجبينْ.

فابتدأ ..

هل أنا ؟ ..

هل هنا ؟ ..

أو تراكَ تكونْ ؟.

لم يُجبْ.

ساخرٌ .. قالَ أكبرهم ..

أمسك الآخرونْ.

بينما قام أقربُهم ..

ضمَّهُ

فبكى ..

وبكى ..

وابتسمْ.

بعدها راحَ يسألُ ..

ثم يجيبُ

وكان الجميعُ له صاغرين …………

( قصيدة / صديق .. إلى الشاعر م ت – نفس الديوان – ص 81 )

كانت جذوة شعره متقدة وموهبته متوهجة ً منذ بدايته ولكن هذه الجذوة سرعان ما خبت وهذا التوهج سرعان ما انطفأ ..

ولأنه – رحمه الله – كان يستشعرُ بداية انطفاء جذوة إبداعه المتوهجة ِ ورحيله عن عالم الشعر والشعراء .. فقد قال قبل أن يهجر ويوَدِّع :

صلبوني ..

بعد العشاءِ الأخيرِ..

رفقةُ الحي في ختامِ الروايةْ.

والغصون التي قد تركتُ عليها

زنبقاتِ الغرامِ

ترعى هوايَ

أصبحت في يديَّ أكليلَ شوكٍ

يبذر الحقدَ والأسى في دمايَ

هل تثورون إذ أتيتُ إليكم

أبصقُ اليوم

في ضميرِ النهايةْ.

لا تخافوا

فليس تملك كفيَّ

سيفاً ..

وقوسَ نصرٍ ..

ورايةْ………………( شعر / مرسي توفيق )

هكذا أشار مرسي توفيق بإصبع الاتهام إلى رفاقه قبل أن يهجر عالم الشعر والشعراء .. وربما كانت هذه الكلمات هي آخر ما سمعته من رفيق الصبا ..

وهكذا إذن تنبأ بانطفاء شعلته بعد بدايةٍ شديدة التوهج انتصرت عليها عوامل الإحباط والقهر ؛ كما تنبأ من قبله الصديق/ محمد عبد الفتاح الشاذلي ( رحمه الله ) بدنو أجله – والذي جاء رحيله بعد فوزه كأول أبناء جيله بالمركز الأول بمسابقة الشعر بمثابة الوهج الذي تجمع حوله الأصدقاء والمفجر لجماعة فاروس الأدبية –

فكتب قصيدته التي اشتهرت آنذاك ويقول في مستهلها :

يدمدم في الصدرِ صوتُ البِلى .

وينبئني سيفُهُ المستترْ.

سترحلُ قبلَ مجئ الزمانِ

وتذهبُ بالذكرياتِ الفطرْ…………( شعر / محمد عبد الفتاح الشاذلي )

والذي كان أيضاً ذو بدايةٍ متوهجةٍ دائمة التجدد يقول عنها مع مستهل قصيدته الطبول والتي اتخذ من عنوانها عنواناً لديوانه الوحيد :

تدقُ الطبولْ

فيعلو بصدري رنينُ الفصولْ………( محمد عبد الفتاح الشاذلي )

وكما بدأ أيضاً شاعر العامية المتميز / أحمد رفعت ثائراً حكيماً :

مصر مش هيه الهرم شامخ .. وبسْ.

مصر مش ضي القمر

والنيل .. وبسْ.

مصر مش خدّامه تغسل

في الكويت.

مصر يا ابني ست بيت .

ياما قلبك بيها حسْ. …. ( شعر أحمد رفعت )

وانتهي محبطاً ؛ منكسراً :

ملعون الحرف الني

والحرف اللي مهوش جي

ملعونه ان كنتي تقولي

الشاعر ميت ؛ حي …..( أحمد رفعت )

وقوله :

من جراب الحاوي طلّع

م احنا بنسقف كتير.

الأرانب هيه هيه

والحمير نفس الحمير ……( أحمد رفت )

تميز مرسي جاير توفيق بقاموسه الخاص ؛ بل شديد الخصوصية والذي شاعت خلاله ألفاظ لم تكن موجودة في خطابات الشعراء بهذه الكثافة والكيفية من قبل ولا أعتقد أنها وجدت عند شاعر بعده بنفس الكثافة والكيفية من بعد .. ألفاظ مثل : الصمغ والقات والغسلين والجوع والصدأ والحقد والضفادع والببغاوات والشرايين والمماليك … الخ .. يصوغها في تجاورات لفظية وتراكيب لغوية تنتج نوعاً من الدهشة والغرابة المحببة على غرار قوله مثلاً في قصيدة عنوانها ( كانت وجوههم كالكيمياء ):

تعبت من مرارة السفر ..

من الوجوه الببغاوات..

ومن مدينتي التي إناسها ضفادعٌ .. ( شعر / مرسي توفيق )

أو قوله :

لا تسألي عن فؤادي اليومَ يا سبأُ

فالقاتُ والإثمُ والتمييزُ والصدأُ

شابت بأرضكِ نارُ الحقدِ ؛ واقتتلتْ

على يديكِ جنودٌ .. إنهم صبأوا ……………( شعر / مرسي توفيق )

والآن ؛ وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على سماعي لهذه الكلمات ؛ اسمحوا لي أن أسوق بين يديكم كلماتٍ أخري على غرار :

نعم .. إنَّهُ أنا

مَنْ رأي جُثةَ َالشعرِ ..

مرمية ًفي بئرِ هذا الزقاق القديم

من الفقرِ ..

قلتُ : هذا هو الشِعرُ

بنطاله الرثُّ

ثم القميصُ الذي قد تلطخَ بالحزن

كانا وسيلتَهُ الواقعية َ للموتِ

هنا فوق صرة الليلِ

هذا أنا أشتهيه أخيرا ً

ولكنه ميت ٌ………….( محمود عبد الصمد)

أسوقها كإهداء إلى روح من علموني أن الشعرَ حياة .. وأنه طفولة متجددة بالحركة والنشاط والتداخل ..

وأن الواقع أيّا ً كان شكله ونمطه وتكوينه ومقاصده ؛ ليس مجرد مجموع الأحداث المتجاورة الصلبة ؛ بل هو روح الحياة الكامنة في هذه المشاهد والظواهر والأحداث وأن الشعر الحقيقي هو واقع الشاعر الحي بما هو عليه بالفعل ذاته ولذاته ؛ وليس كما نتمثله بمجرد التصور التجريدي له ؛ فالعالم المحيط بنا ليس عقلا ً محضا ً ؛

والكلمات ليست تمثيلا ً رمزيّا ً محضا ً للأشياء ؛ بل هناك دائما ً هذا الحراك الجدلي المتجدد والكامن المخبئ في ممكناته اللامتناهية ؛ سواء في جسد الواقع ؛ أو في جسد النصوص الإبداعية ..

أسوقها إلى الطالب بالسنة الأولى من المرحلة الثانوية الذي كتب برقيةً إلى ماري انطوانيت ليسألها :

ميري ..

هل عظم أظافركِ الحجريةِ

من دم أطفالِ فرنسا ؟!! ( شعر / مرسي توفيق )

إلى روح صديقي الشاعر الشاعر الراحل / مرسي جابر توفيق رحمه الله ..

أشتهر مرسي توفيق بين أقرانه بصاحب المريميات نسبةً لمجموعته الأولى والتي كان عنوانها ( أهازيجٌ لوجهٍ مريمي ) كان رحمه الله قد جهزها للطباعة أكثر من مرّة وحالت أزمة النشر في ذلك الوقت دون خروجها للنور ؛ وقد حاولت جاهداً أن أعثر عليها أو على بعضها من الأصدقاء وللأسف يبدو أنها قد فقدت كما فقد كل إنتاج هذا الشاعر .. والأهازيج – كما سمعتها منه القصيدة تلو الأخرى وقت كتابتها – هي مجموعة قصائد تقليدية الشكل ؛ حداثية الطرح والمعالجة الفنية ؛ رائعة ومتفرَّدة بامتياز ؛ تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن شكل القصيدة العربية قادر على استيعاب وإنجاز كل تقنيات الحداثة واحتواء كل جديد وأن التعلل بضيقه وقيوده وعياره عن استيعاب ومجاراة العصر إنما هو محض تشدق وعلل جوفاء للغير قادرين على امتلاك أدواتهم ؛ فليس العيب في الشكل أو الفورم بقدر ما هو في مدي أهلية الشاعر على إنتاج القصيدة وصب تجربته في هذا الشكل …

ومنها قوله على سبيل المثال :

خذيني .. في رُبي عينيكِ

من صمغ الشرايينِ ..

خذي فانوسي الليليَّ

من وثنيةِ الطينِ ..

خذيني .. تحت كوخِ الشمسِ

نلهو كالمجانين ِ ..

فظلُّكِ رفَّةٌ حيري..

أوشوشها .. فتدعوني …………..( شعر / مرسي جابر توفيق)

وقوله :

لا تصهلي يا قطتي المستسلمةْ.

وتقوقعي تحت الجفونِ الآثمةْ.

لا لن أبيعك لحظة ً

أيبيع عيسى في المدائنِ مريمه ْ.؟ ……….( شعر / مرسي توفيق)

هكذا كان مرسي جابر توفيق – رحمه الله – الفتى البسيط / الشاكي / الباكي / الجواد/ صاحب الموقف والرأي والرؤيا ..وإنني متكئ علي أساس معرفتي هذه به أميل لأن أضع في خلفية هذه الكتابة أن المعايش لتجربة هذا الشاعر القصيرة العمر ؛ سيوقن بما لا يدع مجالاً لأي شك أنه شاعر قد صنعه الله علي عينه أكثر من أن تصنعه أي تأثيرات أو عوامل أخري خارجية مساعدة .. فلم يتتلمذ مرسي توفيق على يد أى أستاذ ولم يُعنى كثيراً بدراسة حتى أدوات الشعر من لغة وعروض وغير ذلك ؛ لا عن رفض أو إعراض أو زهد ولكن عن ضيق سبل وقسوة عيش وافتقاد حقيقي وارتكان غير خافي على توقد الموهبة ..

حياته البسيطة هي كل منابعه .. ومشاعره المتأججة بحزنها هي كل روافده .. ولم يمنعه ذلك من أن يكون من أشعر من جايلوه إن لم يكن أشعرهم بالفعل وأنا واحدٌ منهم .. …………….. وتلك شهادتي ..

لم يكن / مرسي توفيق إذن سوي كيان منغوم بالفطره لشاب يعي جيداً معاني خوفه وقلقه وعوزه وطموحه ومأموله .. الأمر الذي يبلوره في النهاية كصوت ٍ شعري شعري خالص وصافي ونقي ..

يقول تحت عنوان ( سالومي ) :

رقصُ سالومي ..

ورأسُ المعمدان ..

ودماءُ الحُبِّ ..

فوق اللامكان..

وأنا ؛ أخرجُ من حُنجرتي

أصفُ الأشياءَ

فاخسأ يا بيان.

كان للحيّةِ عقلٌ .. ويدانْ.

ورموشٌ ظلها ..

كالشمعدانْ. …………( شعر / مرسي توفيق)

ولأن الإنسان كائن مركب يعيش في عالم برّاني وعالم جوّاني ملئ بالأسرار ؛ لذا فإن محاولة شرح الإنسان شرحا ً كاملا ً أو شرح ظواهره الناتجة عنه وتفسيره كاملا ً وإدخاله دائرة السببية المطلقة هو ضرب من الخيلاء … ومحاولة التوصل إلي قوانين صارمة أو تفسيرات كلية نهائية وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شئ هي محاولة ساذجة وبلهاء .. كما أن محاولة المعرفة الكاملة هي محاولة فاوستية شيطانية حمقاء .. وإذا كان الشعر هو : الرؤية المتجددة لبلورة الأبعاد المترامية بين الحسي والخيالي .. أي بين العقلي المنطقي والمعنوي .. فهو تعبير وجداني باللغة عن تضاريس الإبداع الحر في تمثله صدق التجربة الحياتية … فإن هذا هو العيار الحقيقي الذي يمكن أن تقاس به تجربة / مرسي جابر توفيق الشعرية ..

كان شعر / مرسي توفيق هو خزانة أسراره ؛ وسِر معناه الكامن في الكلمات ..

وسوف يعني ذلك ضرورة وحدة الظاهر والباطن ؛ ولن تتم هذه الوحدة إلاّ بتحقق عنصر الصدق؛ وقد كان مرسي توفيق – رحمه الله – صادقاً مع نفسه ومع الآخرين.. وأمينا ظاهرا ً وباطناً..